أحدث المواضيع
U3F1ZWV6ZTQ4NjU0ODU1Mjc4NzIwX0ZyZWUzMDY5NTY4OTkzNzEzNA==
أحدث المواضيع
أحدث المواضيع

تابع : الدولة الطولونية من الإزدهار إلى الإنهيار | 2 - خماروية بن أحمد بن طولون | عصر الدولة الطولونية | مصر في عصر الإسلام


تابع : تاريخ مصر في عصور الإحتلال
ثالثاً - تابع : الإحتلال الإسلامي لمصر
( تابع : العصر العباسي )
[ تابع الدولة الطولونية ]



2 - فترة حكم خمارويه لمصر




فترة إزدهار الدولة الطولونية ماقبل وفاة أحمد بن طولون
لقد إشتُهرت مصر في العصر الطولوني بالطب ، فظهر من الأطبَّاء سعيد بن ترفيل، وهو مسيحي كان في خدمة أحمد بن طولون ، وسعيد بن البطريق وهو مسيحيٌّ أيضًا كانت له عِدَّة مُؤلَّفات منها تاريخه المُسمَّى : « التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق ». 
كذلك - ظهر خِلال تلك الفترة بعض الكُتّاب الذين إهتموا بِتدوين التاريخ والخطط،  ومن أشهرهم عبد الرحمٰن بن عبد الحكم القُرشي ، وكان من أهل الرواية والحديث ، ثم شُغف بِالقصص والأخبار ، وكَلِف بالتاريخ ، ومن مُؤلَّفاته كتاب «فُتوح مصر»، ويُعدُّ إبن عبد الحكم - أوَّل مُؤرِّخ لِخطط مصر الإسلاميَّة. 
ومن أشهر مُؤرِّخي مصر في العصر الطولوني أبو جعفر أحمد بن يُوسُف المعروف بإبن الداية ، وقد ألَّف كتابًا في سيرة أحمد بن طولون ، وكتابًا آخر في سيرة خُمارويه، كما كان لهُ كُتبًا أُخرى وهي: كتاب «أخبار غلمان بني طولون»، وكتاب «حُسن العُقبى»، وكتاب «أخبار الأطباء»، وكتاب «المُكافأة». وكذلك من أشهر مُؤرخي الدولة الطولونيَّة أبو مُحمَّد عبدُ الله بن مُحمَّد المديني المعروف بالبلويّ، وذكر ابن النديم أنه كان عالمًا وفقيهًا وواعظًا، وأنه ألَّف كُتبًا كثيرة منها: كتاب الأبواب، وكتاب المعرفة، وكتاب الدين وفرائضه. 
وقد فُقدت هذه الكُتب جميعًا ولم يبق من مُؤلَّفاته إلا كتابه «سيرة أحمد بن طولون » الذي يُعدُّ من أهم المصادر لِدراسة تاريخ مصر والشرق الأدنى الإسلامي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري المُوافق للقرن التاسع الميلادي. 
وفي العصر الطولوني ازدهرت الدراسات اللُغويَّة، وكان من بين أبرز اللُغويين الوليد بن مُحمَّد التميمي المعروف بولاَّد، كذلك أنجبت المدرسة اللُّغوية أحمد بن جعفر الدينوري صاحب كتاب «المُهذَّب في النحو» ، وأبا جعفر النحَّاس صاحب كتاب « معاني القُرآن ومنسوخه » ، ومُحمَّد بن حسَّان النحوي.
وفيما يخص الجيش ، والإهتمام بتطويره  ، فقد جاء وليداً لمدى دراية أحمد بن طولون بأهميَّة دور الجيش في تحقيق مشروعاته ، وخدمة أهدافه التوسعية ، ولِذلك / فقد عمل مُنذ أن وطئت قدماه أرض مصر على تأسيس جيشٍ مُدرَّبٍ يدينُ له بالولاء ويُعتمد عليه، ويكون أداته في تحقيق أهدافه وصيانة استقلاله. وقد تجلَّت رغبته في تأسيس قُوَّةٍ عسكريَّةٍ خاصَّة به مُنذُ أن رأى حرس أحمد بن المُدبِّر الخاص ، فأحبَّ أن يختص به لِنفسه من دون غيره. 
هذا - وقد ظلَّت هذه الرغبة تُراوده ، غير أنَّ خشيته من إثارة سخط الخِلافة وارتيابها في نواياه ، وهو لا يزال في بداية حياته السياسيَّة ، بالإضافة إلى حاجته إلى المال الذي كان في يد إبن المُدبِّر ، وقد كفَّ يده عنه ، وراح يُراقب تحرُّكاته ويوصلها إلى القيِّمين في بغداد؛ حالت من دون الإقدام على هذه الخُطوة الجريئة ، لكنَّهُ ظلَّ يترقَّب الفُرصة لإستغلالها ، وقد جاءته الفُرصة عندما ثار عيسى بن الشيخ الشيباني ، عامل فلسطين والأُردُن ، ضدَّ الخلافة العبَّاسيَّة مُستغلًا إضطراب أوضاعها ، وضعف إمكاناتها ، فنقض طاعتها ، وإستولى على دمشق ، وقطع الخِراج عن بغداد وطمع في أموال مصر التي كانت تُحملُ إليها، ثُمَّ هداهُ تفكيره إلى الإستيلاء على مصر نفسها ، حتَّى إذا تُوفي الخليفة المُهتدي وخلفه الخليفة المُعتمد، تخلَّف عن البيعة إعتدادًا بِقُوَّته ، ولم يدعُ لهُ على المنابر في الأراضي التي يُسيطرُ عليها. 
هذا - وقد توافقت توجُهات الخِلافة في إسترداد هيبتها مع رغبة أحمد بن طولون في وقف هذا التيَّار المُندفع من الشَّام إلى مصر ، فكتب المُعتمد إليه أن يُساعده في القضاء على هذه الثورة ، وكانت فُرصة استغلَّها والي مصر، فإستأذن بالإكثار من الجُند وتكوين جيشٍ قوي،  فأذن لهُ الخليفة.
ولقد إستفاد إبن طولون من التجربة التي عاشها في بغداد ، وذلك من غلبة التُرك وإستبدادهم ، فخشي أن يغلب على الجيش عُنصرٌ واحد يستبد بالأمر ويُوجّه أُمور الدولة لِصالحه، لِذلك لم يتخذ جُنده من عشيرته التُرك حتَّى لا تنتقل الفتن والدسائس إلى مصر، كما أنَّه استبعد حصر الجيش كُلّه بالعرب كي لا يُكرر تجربة الأغالبة الذين اعتمدوا على العنصر العربي حتَّى امتلأ تاريخهم بالصراعات المريرة ، كما أنَّ هذا العُنصر فقد ميزته العسكريَّة مُنذُ أن حرمهُ المُعتصم من العطاء ، فإضطرَّ العرب إلى النُزوح إلى الريف وعملوا بالزراعة ، من أجل ذلك قرَّر أحمد بن طولون تنويع عناصر جيشه من التُرك والزُنج والعرب، فاستخدم أربعة وعشرين ألفًا من التُرك، وأربعين ألفًا من الزُنوج، وسبعة آلاف من العرب وبقيَّة المائة ألف الذي تألَّف منها جيشه من الأجناس الأُخرى كالروم والأفغان. وبالغ أحمد بن طولون في استكثار عديد جيشه وتدعيمه، تُحفِّزه المُؤامرات والدسائس والفتن التي كانت تُحاك ضدَّه في عاصمة الخِلافة، فبلغ عديده مائة ألف مُقاتلاً ، كما سلف. 
وسيطر أحمد بن طولون على هذا الجيش الضخم من واقع سياسة مدروسة ومرسومة ، فقد جعل ضُبَّاطه من التُرك المُقربين إليه. 
وكان هذا الجيش على إستعدادٍ دائمٍ لِتنفيذ ما يُطلب منه ، وقد شُغل أفراده بالتدريب الشاق وإخماد الفتن والفُتوح، وأتاح لهم جني الثروات واكتساب الجاه، ووفَّر لهم أسباب الراحة، وكان يؤثرهم على نفسه ، ويقول أنَّهم ينتسبون إليه انتساب الأبناء إلى الآباء، لِذلك كان يُغدق عليهم بِسخاء ، ويدفع أعطياتهم في أوقاتها. 
ولم تحدث في أيَّامه أيَّة ثورة تُنسب إلى التخلّف في الفوز بالأُجور ، الأمر الذي ألفه المُعاصرون له ، إنما كان في بعض الأحيان يمنح راتب سنة منحة خالصة لهم فتكون أيديهم وقُلوبهم قويَّة.
كما إعتنى أحمد بن طولون بالأُسطول البحري الذي جاء تأسيسه مُتأخرًا عن تأسيس الجيش البري ، ولم تتضح الحاجة الماسَّة إلى الأُسطول إلَّا بعد أن توسَّع ابن طولون في الشَّام واضطرَّ إلى حماية ثُغوره من هجمات البيزنطيين بالإضافة إلى المُحافظة على الطريق البحري الذي يربط الشَّام بمصر. وازدادت عنايته بالأُسطول البحري حين اشتدَّت رغبة المُوفَّق في انتزاع مصر منه، فخشي أن يطأهُ من ناحية النيل، لِذلك شرع في بناء حصن الجزيرة والإكثار من بناء السُفن. وكان شديد الإحساس بِقيمة الأُسطول لاستكمال استعداده العسكري، وقد ضمَّ مائة مركب كبير ومائة مركب عسكري سوى العلابيَّات والحمائم والعشاريَّات والسناديل وقوراب الخدمة.

وفاة أحمد إبن طولون وبداية ولاية خمارويه 
بعد وفاة أحمد بن طولون ، عمد خُمارويه إلى تنمية القُوَّة العسكريَّة لِإمارته ، فراد عدد أفراد الجيش من واقع إدخال عناصر جديدة في صُفوفه. 
وقد جاء إختيار " خماروية " للجلوس على كرسي حكم مصر ، وفقاً لما جاء في روايات المؤرخين ، التي إتفقت في مجملها على أن  أحمد بن طولون ، كان قد إتجه في أواخر أيَّامه ، إلى تحسين الأجواء بينهُ وبين الخليفة المُوفَّق ، فأبدى الأخير إستعداده نظرًا لِأنَّ الخلاف لم يصب في المصلحة العامَّة للمُسلمين ، وأدّى إلى إضعاف مصر والعراق على حدٍ سواء ، وإشترط أحمد بن طولون أن يكون تكريم الخليفة العبَّاسي ، ورد إعتباره إليه بندًا أساسيًّا في الصُلح ، فقبل المُوفَّق ، وبادر بِتكريم الخليفة وردَّ إليه إعتباره وأطلقهُ من محبسه. 
وكانت الخُطوة التالية - إعتراف الخِلافة بِشرعيَّة حُكم في مصر والشَّام - وقد أبدت إستعدادها لِتنفيذ ذلك لولا أنَّ المنيَّة وافت إبن طولون يوم الأحد في 10 ذي القعدة 270هـ المُوافق فيه 10 أيَّار (مايو) 884م ، فإجتمع قادة الجُند ، وإختاروا أبا الجيش خُمارويه بن أحمد بن طولون ، خلفًا لِوالده تنفيذًا لِوصيَّة الأخير ، وإرضاءً للجُند الذين فضَّلوه والتفّوا من حوله للمُحافظة على تُراث الإمارة ومكاسبها ، وكان عُمره عشرين سنة. 
والواقع أنَّ أحمد بن طولون ترك وصيَّةً لابنه ضمَّنها خُلاصة تجاربه السياسيَّة، وحدَّد لهُ فيها الخُطوط العامَّة للسياسة التي يجب أن يتبعها، فأشار عليه بالمُحافظة على بيعة الخليفة كونها أمانة في عُنق كُل أمير وهي ما يُضفي على دولته مُقوِّماتها الشرعيَّة، ونصحهُ بالحفاظ على الجيش وإبقائه مُوحدًا وخاضعًا له ومُواليًا لِدولته، وضمان ولاء عبيده ومواليه والاستمرار بالتسلُّح والاستعداد العسكري الدائم والقضاء على المُؤامرات المُنبعثة من العراق، وكسب ود أهل البلاد والفوز بِرضاهم وتعاونهم، والاعتدال في النفقات وعدم الإسراف في المال. 
ولم يُخالف خُمارويه وصيَّة والده التي عدَّها ميثاقًا لِسياسته في مصر والشَّام وفي علاقاته مع الخِلافة العبَّاسيَّة في بغداد ، بإستثناء الناحية الإقتصاديَّة ، حيثُ مال إلى البذخ والإسراف في الترف.


خماروية والعقبات السياسية مع بداية الحكم
وقد واجه خُماروية في بداية حياته السياسيَّة مُشكلة رفض أخيه العبَّاس مُبايعته والاعتراف بِحُكمه، بعد أن كان والده قد قمع ثورته التي قام بها سابقًا أثناء تغيُّبه في الشَّام، واستنادًا إلى وصيَّة أحمد بن طولون لابنه هذا كان عليه أن يتولَّى حُكم الشَّام ومنطقة الثُغور ويعترف بِحُكم خُمارويه ويخضع لهُ ويُذعن بالطاعة ، إلَّا أنَّهُ لم يفعل، إذ لم يشأ أن يتنازل عن حقه في خِلافة والده بِوصفه الإبن الأكبر ، وكان يتوهَّم أنَّ خُمارويه لا يقوى قلبهُ على مُناهضته ، وقد إستدعاه رجال الدولة وخواص الأولياء والغلمان، ثُمَّ أحضروا المُصحف لِأخذ البيعة منه، لكنَّهُ تردد، وكشف عن نيَّته في العصيان، ما أثار الريبة في نُفوس قادة الجُند الذين كانوا يكرهونه لِتعاليه وجفوته، فكان رفضه البيعة لِأخيه أو تباطؤه فيها بِمثابة النهاية المحتومة، فقد قُتل بعد ذلك بِأيَّام. وبعد أن اجتاز خُمارويه بِنجاح مُشكلة رفض أخيه العبَّاس الاعتراف بِحُكمه، وحقَّق وحدة القيادة السياسيَّة والعسكريَّة، ووحَّد الأُسرة الطولونيَّة، انصرف إلى الاعتناء بِتنمية القُوَّة العسكريَّة، فأسس جيشًا قويًّا اعتنى بِتدريبه وتسليحه وزيادة عدد أفراده، ثُمَّ سارع إلى تنظيم أُمور الشَّام بِسبب أهميَّتها في دعم سُلطته في مصر، لا سيَّما وأنَّ المُوفَّق كان قد انتهى من أمر الزُنج بالبصرة واستقام لهُ الأمر، فتفرَّغ لِمصر لِيأخذ بِثأره القديم، مُستغلًّا وفاة أحمد بن طولون وحداثة خُمارويه في السن. أسند خُمارويه قيادة أهم المُدن والمناطق الشاميَّة لِأفضل قادته ، وكتب بعدها إلى الخِلافة العبَّاسيَّة يطلب إقراره على ما بيده من المناطق مُقابل الدُعاء لِلخليفة والطَّاعة التَّامة له، غير أنَّ المُوفَّق رفض طلبه، ما أغضب خُمارويه ، فأظهر إستياءه، الأمر الذي عُدَّ نذيرًا باستمرار النزاع وإستئناف العمليَّات العسكريَّة.
وقد جمع المُوفَّق بين القُوَّة والدهاء في الحرب مع خُمارويه ، فإستغلَّ إسحٰق بن كنداج، أميرُ الموصل والجزيرة الفُراتيَّة ، الذي كان يرى أنَّهُ أحق بِولاية الشَّام ومصر ، وامتدَّت يداه إلى الداخل الطولوني لِبذر بُذور الشقاق والفرقة وإستغلال ما ينتج من عداوات ، فإستقطب أحمد بن مُحمَّد الواسطي الذي كان قد أقسم على أن يهدم كُلَّ ما بناه خُمارويه وأحمد بن طولون ، بعد أن قام خُمارويه بتقديم محبوب بن جابر على الواسطي ، الذي كان الأخير يعتبرهُ من أتباعه ودونه في المنزلة ، بالإضافة لِتخوُّفه من غدر خُمارويه نظرًا لأنَّه هو (أي الواسطي) كان من أشار عليه بقتل أخيه العبَّاس، فخشي أن ينتقم منه ، ولمَّا أرسلهُ خُمارويه على رأس جيشٍ إلى العراق لِحرب العبَّاسيين ، إتصل به المُوفَّق وألَّبهُ على سيِّده. 


محاولات إقصاء خماروية عن الشام ومصر
لقد تصدَّى خُمارويه لِلمُحاولات العبَّاسيَّة القاضية بِإقصائه عن الشَّام ، وإنتزاع مصر منه، فأسرع في تجهيز الحملات العسكريَّة البريَّة والبحريَّة لِإبعاد الحلف المُناهض للطُولونيين عن هذه البلاد، وانتزاع الاعتراف بِشرعيَّته من العبَّاسيين بِقُوَّة السلاح. تقدَّمت الجُيوش الطولونيَّة إلى الشَّام ، وما أن وصلت إلى فلسطين ، حتَّى ظهرت المُؤامرة ، فقد انضمَّ الواسطي إلى الجُيوش العبَّاسيَّة مُعلنًا صراحةً خيانة سيِّده. وأسرعت القُوَّات العبَّاسيَّة بِدحر الجيش الطولوني ، وسيطرت على الرقَّة وقنسرين والعواصم ، كما هزمت جيشًا ضخمًا يقوده خُمارويه نفسه عند الطواحين على نهر أبي فطرس في جنوبي فلسطين قُرب الرَّملة. وانهمك أفراد الجيش العبَّاسي في جمع الغنائم والأسلاب، ففاجأهم الطولونيون وهُم على هذه الحال ، فقلبوا الهزيمة إلى نصر. 
ثم حدث أن خشي العبَّاسيّون من عودة خُمارويه ، فتوجَّهت قُوَّاتهم الباقية إلى دمشق للإحتماء بها ، فأغلق سُكَّانها الأبواب في وُجوههم ومنعوهم من دُخولها، وكان لِموقفهم هذا ، المُساند للطولونيين ، تأثيرٌ واضح في مجرى الأحداث السياسيَّة من واقع إعادة توحيد البلدين تحت الحُكم الطولوني ، وإنسجامًا مع شُعورهم ضدَّ العبَّاسيين. وتمكَّن الطولونيّون ، بِقيادة سعد الأيسر ، من إستعادة زمام المُبادرة واستعاددة مُعظم مُدن الشَّام، فدخل سعد الأيسر دمشق ، وخطب فيها لخُمارويه ، وأرسل إليه يُبشِّره بالفتح، فسُرَّ هذا وخجُل للهزيمة التي أُلحقت به، فأكثر من الصدقات، وأطلق سراح الأسرى. ولَّى خُمارويه قائد جيشه سعد الأيسر على الشَّام، فعمل هذا على نشر الأمن وتحقيق الاستقرار، وتصدَّى لِهجمات الأعراب على قوافل الحُجَّاج، فأمَّن بِذلك طريق الحج. وظلَّ خُمارويه مُدَّة سنة تقريبًا لا يتدخَّل مُباشرةً في شُؤون الشَّام، ما أعطى الفُرصة لِسعد الأيسر كي يعمل لِمصلحته مُتجاوزًا المصلحة العامَّة العُليا، ويبدو أنَّهُ تطلَّع نحو الاستقلال عن مصر، فاستخفَّ بِسيِّده واتهمهُ بالتخاذل والجُبن والانهماك باللهو، وكانت أخباره تصل إلى مصر ، فتخوَّف منهُ خُمارويه وقرَّر القضاء عليه، فدبَّر لهُ مكيدة في الرَّملة وقتله. غضب سُكَّانُ دمشق لِمقتل أميرهم، فثاروا ضدَّ خُمارويه ولعنوه في الجامع الأُموي، فما كان منه إلَّا أن توجَّه إلى المدينة ودخلها، ولم ينتقم من أهلها ، بل استقطبهم عن طريق الإغراء بالمال والعطايا، فاستردَّ سُلتطهُ ليس على دمشق فحسب ، بل على البلاد كافَّة.


خماروية يبادر بالحرب ضد أعداءه وينتصر عليهم
أرسل خُمارويه الحملات العسكريَّة لِمُحاربة أعدائه في ديارهم مُتبنيًا سياسة الهُجوم، فبدأ بإبن كنداج ، والذي كان أُلعوبة بيد المُوفَّق، وانحاز إليه في هذا الصراع مُحمَّد بن أبي السَّاج حاكم الأنبار بِفعل أنَّ مصلحته الآن تقضي بِذلك ، ودعا لهُ على منابر أعماله ، وإصطدم الحليفان بِقُوَّات إسحٰق بن كنداج على مقرُبةٍ من الرقَّة في منطقة البليخ وإنتصرا عليها. 
وفرَّ إبن كنداج إلى ماردين وتحصَّن بها. وطاردت القُوَّات الطولونيَّة جُنودهُ المُنهزمين حتَّى وصلت إلى سامرَّاء ، وسيطر خُمارويه على منطقتيّ الجزيرة الفُراتيَّة والموصل وعيَّن إبن أبي السَّاج عاملًا عليهما نيابةً عنه ، وإضطرَّ إبن كنداج إلى الدُخول في طاعته ، ورضي بأن يكون أحد عُمَّاله، ودعا لهُ في أعماله التي بِيده. وما أن عاد خُمارويه إلى مصر حتَّى خرج عليه ابن أبي السَّاج بِتحريضٍ من المُوفَّق، وانقضَّ على أملاك الطولونيين في منطقة الجزيرة الفُراتيَّة، فاضطرَّ خُمارويه إلى الخُروج مرَّة أُخرى إلى الشَّام على رأس جيشٍ كبير، والتقى بالقُوَّات العبَّاسيَّة التي كان يقودها ابن أبي السَّاج في ثنية العُقاب بالقُرب من دمشق وانتصر عليها، وطارد ابن أبي السَّاج حتَّى الموصل، ثُمَّ تبعهُ حتَّى تكريت وانتصر عليه - وعلى هذا الشكل - قضى خُمارويه على أعدائه الذين اجتموا ضدَّه، وأقرَّ الأمن على حُدوده الشرقيَّة، وامتدَّ نُفوذهُ من برقة إلى الفُرات ومن الأناضول إلى النوبة، وأضافت الخِلافة أرمينية إلى أملاكه نظير ما بذلهُ من جُهودٍ في منطقة الجزيرة الفُراتيَّة ، واعترف الخليفة بسُلطانه على تلك البلاد وأقرَّهُ عليها ، فإستقرَّ لهُ ولِأولاده من بعده حُكم مصر والشَّام الوراثي مُدَّة ثلاثين سنة ، كما إعترف « يازمان » ، المُستبد بالثُغور ، بِحُكمه ودعا لهُ على منابر الثُغور. وفي 18 رجب 279هـ المُوافق فيه 14 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 892م .

زواج الخليفة المعتضد من إبنة خماروية
توفي الخليفة العبَّاسي وبُويع أبو العبَّاس أحمد بن المُوفَّق بالخِلافة وتلقَّب بِلقب «المُعتضد بالله»، فجدد اعتراف الخِلافة بِولاية خُمارويه وولده طيلة ثلاثين سنة على المناطق التي سيطر عليها، وتمَّت مُصاهرة بين البيتين العبَّاسي والطولوني ، إذ زوَّج خُمارويه إبنته قطر الندى للخليفة المُعتضد.


خمارويه يستعيد سيطرته على الشام
وكان خُمارويه قد بنى قصرًا بِسفح جبل قاسيون المُشرف على دمشق أسفل دير مرَّان، يشربُ فيه الخمر، فقُتل في قصره هذا على أيدي خدمه بِسبب إنحلاله ، في 28 ذي القعدة 282هـ المُوافق فيه 18 كانون الثاني (يناير) 896م. 

مقتل خمارويه وبداية ضعف الدولة الطولونية
وكان والي الشَّام الأمير طُغج بن جف في القصر في تلك الليلة ، وعندما علم بِذلك طارد القتلة وكانوا نيفًا وعشرين خادمًا ، فأدركهم ، وقبض عليهم ، وقتلهم ، وحمل أبا الجيش في تابوتٍ من دمشق إلى مصر ، وكان يوم دُخوله عظيمًا ، حيثُ إستقبلهُ جواريه وجواري غلمانه ونساء قادته بالصياح وما تصنع النساء في المآتم ، وخرج الغلمان ، وقد حُلُّوا أقبيتهم ، وفيهم من سوَّد ثيابه وشقَّها ، فكانت في البلد ضجَّة وصرخة حتَّى دُفن. 
وقد جرى ذلك في الوقت الذي لم يكن يُقدَّر أنَّهُ سيُقتل في نشوة النصر وذروة الظفر، لِتتصدَّع الإمارة من بعده وتهوى. 
هذا - ولقد شكَّل مقتل خُمارويه المُفاجئ بداية نهاية الدولة الطولونيَّة ، حيثُ بدا البيت الطولوني وكأنَّهُ فرغ من الرجال القادرين على مُواصلة مسيرة الدولة بِنجاح، وبدت النُظم التي وضعها المُؤسس، والتي صمدت طيلة ستة وعشرين سنة، كأنها بُنيت على الرمال، فسارت الإمارة في خُطىً سريعة نحو الضُعف والانحلال، وتهاوى مُلك بني طولون في نحو عشر سنوات. اختار بطانة خُمارويه ابنه أبو العساكر جيش لِيكون حاكمًا على مصر والشَّام مكانه، ولم يتجاوز الرابعة عشرة من عُمره، مُتجاوزةً أعمامه أبناء أحمد بن طولون البالغين والقادرين على ملء الفراغ، وذلك للحِفاظ على إمتيازاتها ، فبايعته وهو صبيٌّ لم يُؤدبه الزمان ولم تُحصِّنهُ التجارب والعرفان. 
ولم يكن جيش بالأمير القادر على تحمُّل المسؤوليَّة التي أوكلت إليه ، فقد انصرف إلى اللهو والشراب، وأحاط نفسه بِطبقةٍ فاسدة من الزُنوج والروم ، لا وزن لِأفرادها ولا قدر لهم، ولم يكن لهم عهدٌ بِتقاليد البلاد وآداب العامَّة ، وقد دفعوه إلى الانغماس بالملاهي والتجرُّد من الأخلاق.

بوادر تدهور الدولة الطولونية وضعفها
لقد دفعت هذه التطوُّرات التي حلٌت بالدولة الطولونية ، بعض القادة من المغاربة والبربر والخزر ، الذين يميلون إلى أحمد بن طولون وأبنائه ، إلى الطلب من جيش التنحي عن العرش وتولية أحد أعمامه ، فرُفِضَ الطلب ، فأقدم على قتل عمِّه أبي العشائر نصر ، وهو من القادة الطولونيين الذين برزوا في معركة الطواحين، ورمى بِرأسه إلى الثائرين. 
وإضطرَّ القادة التُرك الذين شاركوا الثائرين في توجُهاتهم إلى الفرار من مصر، فتوجَّهوا إلى الكوفة، حيثُ رحَّب بهم الخليفة المُعتضد وأرسل عددًا من القادة والأُمراء لاستقبالهم. كما استغلَّ والي الشَّام طغج بن جف زعزعة الوضع الداخلي في مصر، وخرج على الحُكم الطولوني، رافضًا أن يخضع لِأميرٍ صغيرٍ وحاشيته الفاسدة، فأسقط اسمه من الخِطبة واستقلَّ بِحُكم ما بيده من الأعمال. كان خُروج طغج بن جف على هذا النحو من النُذر الخطرة التي برزت في هذه المرحلة من حياة الطولونيين لأنَّهُ يُعرِّضُ حُدود الدولة الشرقيَّة لِلخطر، وممَّا زاد الأمرُ صُعوبة وخُطورة أنَّهُ كانت تحت إمرته قُوَّاتٌ طولونيَّة كبيرة، ويتحكَّم بِموارد الشَّام مع وفرتها وكثرتها، الأمر الذي كان لهُ أثرٌ كبيرٌ في زعزعة الحُكم الطولوني. ولم تكن منطقة الثُغور لِترضى أيضًا أن تُذعن لِحُكم أميرٍ طفل، فأعلن أحمد بن طغان، نائب الطولونيين في الثُغور، عدم رضاه عمَّا آلت إليه الأوضاع، فخرج عن طاعة الدولة المُتداعية والانصياع للأمير الصغير جيش، وقرَّر خلعه بعد مُدَّة وجيزة من توليته. واشتدَّت الفتنة في مصر ضدَّ حُكم جيش، وامتدَّت إلى حاشيته والمُحيطين به، فقام عددٌ من قادة الجُند والموالي بخلعه وسجنه يوم 10 جمادى الآخرة 283هـ المُوافق فيه 25 تمُّوز (يوليو) 896م، ونهبوا داره، ثُمَّ ما لبثوا أن قتلوه بعد عدَّة أيَّام.

مسجد حسن طاهر باشا والذي أسسه خماروية
شبرا - القاهرة









تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة

التصنيفات
تاريخ البطاركة201 مقالات تاريخية67 تاريخ الحضارة المصرية القديمة46 مقالات متنوعة27 مقالات في التاريخ24 تاريخ الكتاب المقدس23 أبحاث تاريخية21 مصر في العصر اليوناني21 تاريخ مصر القديم16 تاريخ مصر في العصر الروماني16 تاريخ الإمبراطورية الرومانية15 الاباطرة الرومان14 تاريخ مصر في عصر الإسلام14 تاريخ مصر في عصور الإسلام13 قسم المخطوطات13 تاريخ الحروب الصليبية | موسوعة شاملة في تاريخ الحملات الصليبية12 موسوعة الحروب الصليبية12 تاريخ البدع والهرطقات11 مقالات متنوعة في التاريخ11 موسوعة آباء الكنيسة11 أبحاث تاريخية | تاريخ المتاحف الكبرى في مصر والعالم10 تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية10 موسوعة الكنائس والأديرة10 تاريخ الرهبنة المصرية9 تاريخ الكنيسة9 تاريخ الحروب الصليبية8 دراسات في تاريخ الكنيسة القبطية8 تاريخ الكون6 موسوعة الآباء الرهبان6 بطاركة الإسكندرية5 أبحاث تاريخية | تاريخ الجامعات المصرية4 تاريخ البطالمة4 تاريخ الحملات الصليبية | مشاهير قادة الجيوش الصليبية4 دراسات في التاريخ العربي الإسلامي4 مكتبة المرئيات4 أبحاث تاريخية | تاريخ الأسكندرية عبر العصور3 أبحاث تاريخية | حريق القاهرة في يناير عام 1952م3 تاريخ الجامعات المصرية3 تاريخ الحضارات الإنسانية الأولى3 تاريخ روما القديم3 تاريخ مصر في عصور الإسلام | العصر العثماني | الأسرة العلوية3 مصر في العصر الجمهوري3 مصر في العصر اليوناني | مقدمة3 أبحاث تاريخية | الإسكندر الأكبر2 أبحاث تاريخية | التاريخ المصري القديم2 أبحاث تاريخية | الحروب الصليبية في تاريخ مصر2 أبحاث تاريخية | المتحف المصري2 أبحاث تاريخية | تاريخ الكنيسة2 أبحاث دينية ولاهوت2 التاريخ الطبيعي للأرض2 تاريخ الانسان الاول2 تاريخ البطاركة | مقدمة عن تاريخ الكنيسة القبطية2 تاريخ الثورات في مصر2 تاريخ مصر في العصر الجمهوري2 تاريخ مصر في العصر الروماني | فصل خاص عن تاريخ الإمبراطورية البيزنطية ما بعد الإسلام2 تاريخ مصر في العصر اليوناني2 تاريخ مصر في عصر الإسلام | الدولة العثمانية | تاريخ الأسرة العلوية2 تاريخ مصر في عصر الإسلام | عصر الأسرة العلوية2 تاريخ مصر في عصر الإسلام | عصر الدولة الأيوبية2 تاريخ مصر في عصر الاسلام | جرائم العرب المسلمين في مصر2 حياة الديناصورات2 مصر في عصر الإسلام | عصر الخلفاء الراشدين2 مصر في عصور الإسلام | عصر الخلفاء الراشدين2 مقالات في الدين2 أبحاث الكتاب المقدس1 أبحاث تاريخية | أكتشاف الصليب المقدس1 أبحاث تاريخية | تاريخ أقدم القصور في مصر والعالم1 أبحاث تاريخية | تاريخ الحملات الصليبية1 أبحاث تاريخية | حياة الأسد المرقسي1 أبحاث تاريخية | رحلة العائلة المقدسة إلى مصر1 أبحاث تاريخية | رحلة العائلة المقدسة إلى مصر21 أبحاث تاريخية | مقدمة عن تاريخ الحملات الصليبية1 أبحاث تاريخية حصرية | الحملة الفرنسية على مصر1 أبحاث تاريخية حصرية | محمد على باشا الكبير | تاريخ الأسرة العلوية1 أبحاث في اللاهوت والعقيدة1 إنسان العصر الحجري ومراحل التطور | تاريخ الإنسان عبر العصور1 التاريخ الطبيعي وأوائل الكائنات1 العصر العثماني | إكتشاف حجر رشيد1 العصر العثماني | الحملة الفرنسية على مصر1 تاريخ الأرض الطبيعي1 تاريخ الإمبراطورية الرومانية الغربية1 تاريخ العالم | القرن الرابع الميلادي1 تاريخ الكون وبداية نشأة الحياة على كوكب الأرض1 تاريخ الكون وبداية نشأة كوكب الأرض | فيديو أحدث الإكتشافات العلمية في مجال علم الفضاء1 تاريخ المسيحية في مصر1 تاريخ مصر في عصر الإسلام | عصر الدولة الأموية1 تاريخ مصر في عصور الاحتلال | عصر الجمهورية1 جرائم العرب المسلمون في مصر | الكاتب / أشرف صالح1 حضارات ما قبل التاريخ | حضارات ما قبل الطوفان العظيم1 دراسات في الكتاب المقدس1 دراسات في تاريخ الإسلام1 دراسات في تاريخ العالم القديم1 قاموس القديسين والشهداء1 مصر عصر الإسلام | عصر الدولة العباسية | الدولة العباسية الثانية1 مصر في العصر الإسلامي | مقدمة الكاتب أشرف صالح عن تاريخ العرب القديم ما قبل الإسلام1 مصر في عصر الإسلام1 مصر في عصر الإسلام | الدولة الإخشيدية1 مصر في عصر الإسلام | الدولة الطولونية | مقدمة عن الدولة الطولونية1 مصر في عصر الإسلام | العصر الأموي1 مصر في عصر الإسلام | العصر العباسي | الدولة العباسية الأولى1 مصر في عصر الإسلام | جرائم عمرو بن العاص | حرق مكتبة الأسكندرية1 مصر في عصر الإسلام | دراسات في تاريخ الإسلام وحكم مصر1 مصر في عصر الإسلام | عصر الدولة العباسية الرابعة1 مصر في عصر الإسلام | عصر الدولة العثمانية | تاريخ الأسرة العلوية1 مصر في عصر الإسلام | عصر المماليك البرجية الشركسية1 مصر في عصر الإسلام | مصر في عصر الخلفاء الراشدين1 مصر في عصور الإحتلال | عصر الدولة الأيوبية1 مصر في عصور الإحتلال | عصر الدولة العباسية الثالثة1 مصر في عصور الإحتلال |عصر المماليك1 مصر في عصور الإسلام | العصر الجمهوري1 مصر في عصور الإسلام | عصر الدولة العباسية1 مقتطفات من حياة البطاركة1 موسوعة أقباط مصر1 موسوعة أنبياء العهد القديم1 موسوعة المؤرخون الأوائل1 موسوعة مصر التاريخية الشاملة1 موسوعة مملكة الأرض الجغرافية1