2 - فترة حكم خمارويه لمصر
كذلك - ظهر خِلال تلك الفترة بعض الكُتّاب الذين إهتموا بِتدوين التاريخ والخطط، ومن أشهرهم عبد الرحمٰن بن عبد الحكم القُرشي ، وكان من أهل الرواية والحديث ، ثم شُغف بِالقصص والأخبار ، وكَلِف بالتاريخ ، ومن مُؤلَّفاته كتاب «فُتوح مصر»، ويُعدُّ إبن عبد الحكم - أوَّل مُؤرِّخ لِخطط مصر الإسلاميَّة.
ومن أشهر مُؤرِّخي مصر في العصر الطولوني أبو جعفر أحمد بن يُوسُف المعروف بإبن الداية ، وقد ألَّف كتابًا في سيرة أحمد بن طولون ، وكتابًا آخر في سيرة خُمارويه، كما كان لهُ كُتبًا أُخرى وهي: كتاب «أخبار غلمان بني طولون»، وكتاب «حُسن العُقبى»، وكتاب «أخبار الأطباء»، وكتاب «المُكافأة». وكذلك من أشهر مُؤرخي الدولة الطولونيَّة أبو مُحمَّد عبدُ الله بن مُحمَّد المديني المعروف بالبلويّ، وذكر ابن النديم أنه كان عالمًا وفقيهًا وواعظًا، وأنه ألَّف كُتبًا كثيرة منها: كتاب الأبواب، وكتاب المعرفة، وكتاب الدين وفرائضه.
وقد فُقدت هذه الكُتب جميعًا ولم يبق من مُؤلَّفاته إلا كتابه «سيرة أحمد بن طولون » الذي يُعدُّ من أهم المصادر لِدراسة تاريخ مصر والشرق الأدنى الإسلامي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري المُوافق للقرن التاسع الميلادي.
وفي العصر الطولوني ازدهرت الدراسات اللُغويَّة، وكان من بين أبرز اللُغويين الوليد بن مُحمَّد التميمي المعروف بولاَّد، كذلك أنجبت المدرسة اللُّغوية أحمد بن جعفر الدينوري صاحب كتاب «المُهذَّب في النحو» ، وأبا جعفر النحَّاس صاحب كتاب « معاني القُرآن ومنسوخه » ، ومُحمَّد بن حسَّان النحوي.
هذا - وقد ظلَّت هذه الرغبة تُراوده ، غير أنَّ خشيته من إثارة سخط الخِلافة وارتيابها في نواياه ، وهو لا يزال في بداية حياته السياسيَّة ، بالإضافة إلى حاجته إلى المال الذي كان في يد إبن المُدبِّر ، وقد كفَّ يده عنه ، وراح يُراقب تحرُّكاته ويوصلها إلى القيِّمين في بغداد؛ حالت من دون الإقدام على هذه الخُطوة الجريئة ، لكنَّهُ ظلَّ يترقَّب الفُرصة لإستغلالها ، وقد جاءته الفُرصة عندما ثار عيسى بن الشيخ الشيباني ، عامل فلسطين والأُردُن ، ضدَّ الخلافة العبَّاسيَّة مُستغلًا إضطراب أوضاعها ، وضعف إمكاناتها ، فنقض طاعتها ، وإستولى على دمشق ، وقطع الخِراج عن بغداد وطمع في أموال مصر التي كانت تُحملُ إليها، ثُمَّ هداهُ تفكيره إلى الإستيلاء على مصر نفسها ، حتَّى إذا تُوفي الخليفة المُهتدي وخلفه الخليفة المُعتمد، تخلَّف عن البيعة إعتدادًا بِقُوَّته ، ولم يدعُ لهُ على المنابر في الأراضي التي يُسيطرُ عليها.
هذا - وقد توافقت توجُهات الخِلافة في إسترداد هيبتها مع رغبة أحمد بن طولون في وقف هذا التيَّار المُندفع من الشَّام إلى مصر ، فكتب المُعتمد إليه أن يُساعده في القضاء على هذه الثورة ، وكانت فُرصة استغلَّها والي مصر، فإستأذن بالإكثار من الجُند وتكوين جيشٍ قوي، فأذن لهُ الخليفة.
وسيطر أحمد بن طولون على هذا الجيش الضخم من واقع سياسة مدروسة ومرسومة ، فقد جعل ضُبَّاطه من التُرك المُقربين إليه.
وكان هذا الجيش على إستعدادٍ دائمٍ لِتنفيذ ما يُطلب منه ، وقد شُغل أفراده بالتدريب الشاق وإخماد الفتن والفُتوح، وأتاح لهم جني الثروات واكتساب الجاه، ووفَّر لهم أسباب الراحة، وكان يؤثرهم على نفسه ، ويقول أنَّهم ينتسبون إليه انتساب الأبناء إلى الآباء، لِذلك كان يُغدق عليهم بِسخاء ، ويدفع أعطياتهم في أوقاتها.
ولم تحدث في أيَّامه أيَّة ثورة تُنسب إلى التخلّف في الفوز بالأُجور ، الأمر الذي ألفه المُعاصرون له ، إنما كان في بعض الأحيان يمنح راتب سنة منحة خالصة لهم فتكون أيديهم وقُلوبهم قويَّة.
كما إعتنى أحمد بن طولون بالأُسطول البحري الذي جاء تأسيسه مُتأخرًا عن تأسيس الجيش البري ، ولم تتضح الحاجة الماسَّة إلى الأُسطول إلَّا بعد أن توسَّع ابن طولون في الشَّام واضطرَّ إلى حماية ثُغوره من هجمات البيزنطيين بالإضافة إلى المُحافظة على الطريق البحري الذي يربط الشَّام بمصر. وازدادت عنايته بالأُسطول البحري حين اشتدَّت رغبة المُوفَّق في انتزاع مصر منه، فخشي أن يطأهُ من ناحية النيل، لِذلك شرع في بناء حصن الجزيرة والإكثار من بناء السُفن. وكان شديد الإحساس بِقيمة الأُسطول لاستكمال استعداده العسكري، وقد ضمَّ مائة مركب كبير ومائة مركب عسكري سوى العلابيَّات والحمائم والعشاريَّات والسناديل وقوراب الخدمة.
وكانت الخُطوة التالية - إعتراف الخِلافة بِشرعيَّة حُكم في مصر والشَّام - وقد أبدت إستعدادها لِتنفيذ ذلك لولا أنَّ المنيَّة وافت إبن طولون يوم الأحد في 10 ذي القعدة 270هـ المُوافق فيه 10 أيَّار (مايو) 884م ، فإجتمع قادة الجُند ، وإختاروا أبا الجيش خُمارويه بن أحمد بن طولون ، خلفًا لِوالده تنفيذًا لِوصيَّة الأخير ، وإرضاءً للجُند الذين فضَّلوه والتفّوا من حوله للمُحافظة على تُراث الإمارة ومكاسبها ، وكان عُمره عشرين سنة.
والواقع أنَّ أحمد بن طولون ترك وصيَّةً لابنه ضمَّنها خُلاصة تجاربه السياسيَّة، وحدَّد لهُ فيها الخُطوط العامَّة للسياسة التي يجب أن يتبعها، فأشار عليه بالمُحافظة على بيعة الخليفة كونها أمانة في عُنق كُل أمير وهي ما يُضفي على دولته مُقوِّماتها الشرعيَّة، ونصحهُ بالحفاظ على الجيش وإبقائه مُوحدًا وخاضعًا له ومُواليًا لِدولته، وضمان ولاء عبيده ومواليه والاستمرار بالتسلُّح والاستعداد العسكري الدائم والقضاء على المُؤامرات المُنبعثة من العراق، وكسب ود أهل البلاد والفوز بِرضاهم وتعاونهم، والاعتدال في النفقات وعدم الإسراف في المال.
ولم يُخالف خُمارويه وصيَّة والده التي عدَّها ميثاقًا لِسياسته في مصر والشَّام وفي علاقاته مع الخِلافة العبَّاسيَّة في بغداد ، بإستثناء الناحية الإقتصاديَّة ، حيثُ مال إلى البذخ والإسراف في الترف.
ثم حدث أن خشي العبَّاسيّون من عودة خُمارويه ، فتوجَّهت قُوَّاتهم الباقية إلى دمشق للإحتماء بها ، فأغلق سُكَّانها الأبواب في وُجوههم ومنعوهم من دُخولها، وكان لِموقفهم هذا ، المُساند للطولونيين ، تأثيرٌ واضح في مجرى الأحداث السياسيَّة من واقع إعادة توحيد البلدين تحت الحُكم الطولوني ، وإنسجامًا مع شُعورهم ضدَّ العبَّاسيين. وتمكَّن الطولونيّون ، بِقيادة سعد الأيسر ، من إستعادة زمام المُبادرة واستعاددة مُعظم مُدن الشَّام، فدخل سعد الأيسر دمشق ، وخطب فيها لخُمارويه ، وأرسل إليه يُبشِّره بالفتح، فسُرَّ هذا وخجُل للهزيمة التي أُلحقت به، فأكثر من الصدقات، وأطلق سراح الأسرى. ولَّى خُمارويه قائد جيشه سعد الأيسر على الشَّام، فعمل هذا على نشر الأمن وتحقيق الاستقرار، وتصدَّى لِهجمات الأعراب على قوافل الحُجَّاج، فأمَّن بِذلك طريق الحج. وظلَّ خُمارويه مُدَّة سنة تقريبًا لا يتدخَّل مُباشرةً في شُؤون الشَّام، ما أعطى الفُرصة لِسعد الأيسر كي يعمل لِمصلحته مُتجاوزًا المصلحة العامَّة العُليا، ويبدو أنَّهُ تطلَّع نحو الاستقلال عن مصر، فاستخفَّ بِسيِّده واتهمهُ بالتخاذل والجُبن والانهماك باللهو، وكانت أخباره تصل إلى مصر ، فتخوَّف منهُ خُمارويه وقرَّر القضاء عليه، فدبَّر لهُ مكيدة في الرَّملة وقتله. غضب سُكَّانُ دمشق لِمقتل أميرهم، فثاروا ضدَّ خُمارويه ولعنوه في الجامع الأُموي، فما كان منه إلَّا أن توجَّه إلى المدينة ودخلها، ولم ينتقم من أهلها ، بل استقطبهم عن طريق الإغراء بالمال والعطايا، فاستردَّ سُلتطهُ ليس على دمشق فحسب ، بل على البلاد كافَّة.
وفرَّ إبن كنداج إلى ماردين وتحصَّن بها. وطاردت القُوَّات الطولونيَّة جُنودهُ المُنهزمين حتَّى وصلت إلى سامرَّاء ، وسيطر خُمارويه على منطقتيّ الجزيرة الفُراتيَّة والموصل وعيَّن إبن أبي السَّاج عاملًا عليهما نيابةً عنه ، وإضطرَّ إبن كنداج إلى الدُخول في طاعته ، ورضي بأن يكون أحد عُمَّاله، ودعا لهُ في أعماله التي بِيده. وما أن عاد خُمارويه إلى مصر حتَّى خرج عليه ابن أبي السَّاج بِتحريضٍ من المُوفَّق، وانقضَّ على أملاك الطولونيين في منطقة الجزيرة الفُراتيَّة، فاضطرَّ خُمارويه إلى الخُروج مرَّة أُخرى إلى الشَّام على رأس جيشٍ كبير، والتقى بالقُوَّات العبَّاسيَّة التي كان يقودها ابن أبي السَّاج في ثنية العُقاب بالقُرب من دمشق وانتصر عليها، وطارد ابن أبي السَّاج حتَّى الموصل، ثُمَّ تبعهُ حتَّى تكريت وانتصر عليه - وعلى هذا الشكل - قضى خُمارويه على أعدائه الذين اجتموا ضدَّه، وأقرَّ الأمن على حُدوده الشرقيَّة، وامتدَّ نُفوذهُ من برقة إلى الفُرات ومن الأناضول إلى النوبة، وأضافت الخِلافة أرمينية إلى أملاكه نظير ما بذلهُ من جُهودٍ في منطقة الجزيرة الفُراتيَّة ، واعترف الخليفة بسُلطانه على تلك البلاد وأقرَّهُ عليها ، فإستقرَّ لهُ ولِأولاده من بعده حُكم مصر والشَّام الوراثي مُدَّة ثلاثين سنة ، كما إعترف « يازمان » ، المُستبد بالثُغور ، بِحُكمه ودعا لهُ على منابر الثُغور. وفي 18 رجب 279هـ المُوافق فيه 14 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 892م .
وقد جرى ذلك في الوقت الذي لم يكن يُقدَّر أنَّهُ سيُقتل في نشوة النصر وذروة الظفر، لِتتصدَّع الإمارة من بعده وتهوى.
هذا - ولقد شكَّل مقتل خُمارويه المُفاجئ بداية نهاية الدولة الطولونيَّة ، حيثُ بدا البيت الطولوني وكأنَّهُ فرغ من الرجال القادرين على مُواصلة مسيرة الدولة بِنجاح، وبدت النُظم التي وضعها المُؤسس، والتي صمدت طيلة ستة وعشرين سنة، كأنها بُنيت على الرمال، فسارت الإمارة في خُطىً سريعة نحو الضُعف والانحلال، وتهاوى مُلك بني طولون في نحو عشر سنوات. اختار بطانة خُمارويه ابنه أبو العساكر جيش لِيكون حاكمًا على مصر والشَّام مكانه، ولم يتجاوز الرابعة عشرة من عُمره، مُتجاوزةً أعمامه أبناء أحمد بن طولون البالغين والقادرين على ملء الفراغ، وذلك للحِفاظ على إمتيازاتها ، فبايعته وهو صبيٌّ لم يُؤدبه الزمان ولم تُحصِّنهُ التجارب والعرفان.
ولم يكن جيش بالأمير القادر على تحمُّل المسؤوليَّة التي أوكلت إليه ، فقد انصرف إلى اللهو والشراب، وأحاط نفسه بِطبقةٍ فاسدة من الزُنوج والروم ، لا وزن لِأفرادها ولا قدر لهم، ولم يكن لهم عهدٌ بِتقاليد البلاد وآداب العامَّة ، وقد دفعوه إلى الانغماس بالملاهي والتجرُّد من الأخلاق.
وإضطرَّ القادة التُرك الذين شاركوا الثائرين في توجُهاتهم إلى الفرار من مصر، فتوجَّهوا إلى الكوفة، حيثُ رحَّب بهم الخليفة المُعتضد وأرسل عددًا من القادة والأُمراء لاستقبالهم. كما استغلَّ والي الشَّام طغج بن جف زعزعة الوضع الداخلي في مصر، وخرج على الحُكم الطولوني، رافضًا أن يخضع لِأميرٍ صغيرٍ وحاشيته الفاسدة، فأسقط اسمه من الخِطبة واستقلَّ بِحُكم ما بيده من الأعمال. كان خُروج طغج بن جف على هذا النحو من النُذر الخطرة التي برزت في هذه المرحلة من حياة الطولونيين لأنَّهُ يُعرِّضُ حُدود الدولة الشرقيَّة لِلخطر، وممَّا زاد الأمرُ صُعوبة وخُطورة أنَّهُ كانت تحت إمرته قُوَّاتٌ طولونيَّة كبيرة، ويتحكَّم بِموارد الشَّام مع وفرتها وكثرتها، الأمر الذي كان لهُ أثرٌ كبيرٌ في زعزعة الحُكم الطولوني. ولم تكن منطقة الثُغور لِترضى أيضًا أن تُذعن لِحُكم أميرٍ طفل، فأعلن أحمد بن طغان، نائب الطولونيين في الثُغور، عدم رضاه عمَّا آلت إليه الأوضاع، فخرج عن طاعة الدولة المُتداعية والانصياع للأمير الصغير جيش، وقرَّر خلعه بعد مُدَّة وجيزة من توليته. واشتدَّت الفتنة في مصر ضدَّ حُكم جيش، وامتدَّت إلى حاشيته والمُحيطين به، فقام عددٌ من قادة الجُند والموالي بخلعه وسجنه يوم 10 جمادى الآخرة 283هـ المُوافق فيه 25 تمُّوز (يوليو) 896م، ونهبوا داره، ثُمَّ ما لبثوا أن قتلوه بعد عدَّة أيَّام.
إرسال تعليق