{ عبـــد المسيــح إبــن زويـــــل }
إنتشر مرض الطاعون بسبب قلة ماء النيل ، وإضطر الناس إلى أكل الحيوانات النافقة والجياف النتنة.
وحدثت في أيامه مصائب وويلات كثيرة على المسيحيين بسبب إنقسام المماليك إلى أحزاب ، فكان القبط هم أعظم ضحية لهذه المصائب ، فاضطهدهم الحكام وألزموهم بدفع غرامات طائلة ، وزادوا الجزية ، فمات الكثيرون ، وأسلم الكثيرون بسبب ذلك.
وهو الثامن سلاطين المماليك البحرية .
ولعا من أشهر إنجازاته : فتح عكا ، والقضاء على آخر معاقل الصليبيين في الشام، بعد أن إستمر وجودهم فيها مائة وستة وتسعين سنة.
في عام 1290 م - تسبب الأشرف خليل في إصدار والده قلاوون لقرار باعتقال ونفي سلاميش ، و خضر إبناً السلطان المتوفى الظاهر بيبرس، بعد أن أخبره بأنهما إتصلا بالأمراء الظاهرية ، وقد قام خليل بعد أن تولى السلطنة بنفيهما مع أمهما إلى إمبراطورية نيقيا البيزنطية .
الحروب التي خاضها الأشرف خليل على مدى حكمه
وقائع حصار عكا وتحريرها من الصليبيين
فلما رأى خليل التقليد بغير علامة أبيه قال: "يا فتح الدين إن السلطان امتنع أن يعطيني ، وقد أعطاني الله" ، وألقى التقليد إلى إبن عبد الظاهر وجدد الأمراء الحلف له فجلس على تخت السلطنة وكُتب بسلطنته إلى الأقطار.
تحرير صيدا وحيفا وأرواد من قبضة الصليبيين
أرسل الأشرف خليل الأمير الشجاعي إلى صيدا ، فقرر فرسان المعبد اللوذ بقلعتهم ، التي كانت مشيدة على جزيرة صغيرة قرب الشاطئ ، إذ أن ثروتهم كانت قد نقلها زعيمهم الجديد " تيبالد جودين " إلى صيدا وقت حصار حصنهم في عكا ، ثم فر "تيبالد جودين" بالثروة إلى قبرص بعد أن وعد فرسان حامية صور بإرسال إمدادات إليهم من قبرص، وهو مالم يفعله ، فاضطر الفرسان إلى مناوشة قوات الشجاعي لبعض الوقت حتى تمكنوا ذات ليلة من الفرار إلى طرطوس بعدما لاحظوا أن المسلمين يبنون جسرًا بين الشاطئ والقلعة.
وبعد أن حرر الشجاعي صيدا توجه إلى بيروت التي كان بها حامية صليبية صغيرة كانت مرفأً تجاريًا هاماً للصليبيين ، كانت سيدة بيروت إيشيفا أوف ايبلين ، تظن أنها بمأمن من المسلمين بسبب توقيعها هدنة مع السلطان قلاوون والد الأشرف خليل. عندما وصل الشجاعي إلى بيروتطلب من مقدمي الحامية المثول أمامه ، فلما أتوه قبض عليهم ، فر المقاتلون الصليبيون عن طريق البحر. تحررت بيروت من الصليبيين في الحادي والثلاثين من يوليو ، وأمر الشجاعي بتدمير قلاعها وأسوارها ، وتحويل كاتدرائيتها إلى مسجد.
وقد تحررت حيفا بدون مقاومة صليبية تُذكر ، وقام الأمير سيف الدين بلبان بمحاصرة طرطوس ، ففر الصليبيون إلى جزيرة أرواد مقابل الساحل السوري القريبة من طرطوس ، وتحررت طرطوس في الثالث من أغسطس ، وبعدها عثليت في الرابع عشر من أغسطس.
وبهذا - فقد الصليبيون كافة معاقلهم على ساحل الشام عدا جزيرة أرواد التي بقيت اثنتي عشر سنة في أيدى فرسان المعبد إلى أن قام المسلمون بمحاصرتها وتحريرها في عام 1302م كان الأشرف يدرك أن بطرد الصليبيين من سواحل الشام ، فإن قبرص قد صارت مصدر الخطر الأساسي على المسلمين ، فملك قبرص كان يعتبر بالنسبة للجيوش الصليبية ، من الناحية الاسمية ملكًا لبيت المقدس حتى بعد تحريرها.
وبعد تحرير ساحل الشام أصبحت حكومة قبرص هي الحكومة الصليبية الأكثر حماسة لمعاودة الاستيلاء على "الأرض المقدسة" ، فقام الأشرف بتدمير كل المواقع والمدن والحصون الساحلية ليحرم الصليبيين من الافادة منها في حالة مهاجمتهم لها. ففضل الأشرف أن تبقى منطقة الساحل مهجورة طالما بقى التهديد الصليبي قائمًا .
وفي عام 1292 وصل الأشرف خليل ومعه وزيره ابن السلعوس إلى دمشق وانطلق منها على رأس الجيش إلى حلب ومنها إلى قلعة الروم "هرموغلا" مقر أرمينيا حاصر الأشرف قلعة الروم بعشرين أو ثلاثين منجنيقًا. وعمل الأمير الشجاعي سلسلة وشبكها في شراريف القلعة ، فصعد الأجناد وقاتلوا قتالًا شديدًا إلى أن إستولوا على القلعة بعد ثلاثة وثلاثين يومًا ، وأمر السلطان خليل بتغيير إسمها من قلعة الروم إلى قلعة المسلمين ، وطلب من الأمير الشجاعي عمارتها ، وعاد إلى دمشق بالأسرى المكبلين بالأغلال ، وكان من ضمنهم بطريرك الأرمن ، وقام أهل دمشق باستقبال الجيش بآلاف الشموع المضيئة ، وتزينت المدينة إحتفالًا بالنصر ، ومن دمشق توجه الأشرف إلى القاهرة التي تزينت له من باب النصر ، وصعد إلى قلعة الجبل من باب زويلة ، وإستقبلته رعيته المحتشدة والمبتهجة بآلاف الشموع .
ولقد كانت مملكة أرمينية الصغرى، أو مملكة قليقية، من ألد أعداء الدولة المملوكية، حيث شاركت في الحروب الصليبية ضد المسلمين وتحالفت مع المغول عليهم وكان لها قوات شاركت في صف المغول في معركة عين جالوت ، وقد أصبحت تلك المملكة الصليبية بعد هزيمة المغول، التي أدت إلى نقص قدرتهم على حمايتها ، هدفًا للماليك يغيرون عليها من حين لآخر منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس ، وبعد فتح قلعة الروم أصبحت سيس عاصمة مملكة أرمينية الصغرى مقرًا للكنيسة الكاثوليكية الأرمينية.
وقد تجهز الجيش في دمشق بقيادة الأمير بيدرا نائب السلطنة ، ثم لحق به الأشرف بعد أن توقف في الكرك لترتيب أحوالها ، وأمر بالتجهيز لأخذ بهنسا من الأرمن ، فلما علم الأرمن بنية الأشرف أرسلوا له الرسل يرجون منه عدم مهاجمة مملكتهم ، فتم الاتفاق على تنازل الأرمن عن بهنسا ومرعش وتل حمدون في مقابل عدول الأشرف عن مهاجمتهم ، فأرسل الأشرف الأمير طوغان والي البر بدمشق مع رسل الأرمن إلى تلك المناطق لتسلمها فصارت في حوزة المسلمين بغير قتال .
القضاء على الصليبيين ونهايتهم
أنهى الأشرف خليل عملية تقويض الحلم الصليبي التي كان قد بدأها الناصر صلاح الدين ، وأكملها السلطان بيبرس ومن بعده إبنه قلاوون.
وبسقوط عكا والمراكز الصليبية على ساحل الشام ، تبخر الحلم الصليبي الذي عمل الصليبيون خلال مائتي عام على تحقيقة بكل جد ودون كلل وكلفهم المال والرجال. بعد سقوط عكا حاول بابا الكاثوليك "نيقولا الرابع" فعل شيء يعيد للصليبيين مكانتهم وهيبتهم ، وقام فور سماعه بسقوط عكا بتحميل عشرين سفينة بالمقاتلين في أنقونا وجنوا، وأرسل بها إلى قبرص ، وقامت تلك السفن بعد أن انضمت إليها سفن الملك هنري بغارة فاشلة على حصنتركي على ساحل الأناضول ، وغارة كر وفر على مدينة الإسكندرية في مصر ، غلًا وحقدًا على انتصارات الأشرف وجيش المسلمين، ولكن البابا نيقولا مات في سنة 1292 دون تحقيق أكثر من ذلك.
أما ملوك أوروبا - فقد دخلوا في صراعات داخلية - كالحرب المريرة التي نشبت بين فرنسا وإنجلترا في عام 1293 ولم يعد في إستطاعتهم تنظيم حملات صليبية جديدة - أما فرسان المعبد - فقد كانت نهايتهم مأساوية في أوروبا بعد أن تورطوا في مشكلات مالية مع ملك فرنسا فيليب الرابع ، وإتهمهم البابا كليمينت الخامس بالهرطقة فتم الإستيلاء على ثرواتهم ، ولعنوا ، وألقي بهم في النار.
عسكريًا ، كان الأشرف خليل يملك مواهب وطاقات بعض من سبقوه : كالظاهر بيبرس ، ووالده قلاوون ، ولكن الأشرف لم يصادف هوى الأمراء منذ البداية. فقد بدأ حكمه بالقبض على أمراء أبيه وأعدم بعضهم مثلما فعل مع الأمير طرنطاي نائب سلطنة أبيه. بعد فتح عكا قام الأشرف بالقبض على حسام الدين لاجين ، وبعد عودته منتصرًا إلى القاهرة ، أعدم بعض كبار الأمراء - من بينهم الأمير سنقر الأشقر - ومن جهة ثانية عمد الأشرف إلى تفضيل المماليك والأمراء البرجية من ذوي الأصول الشركسية على المماليك والأمراء من ذوى الأصول التركية مما خلق حالة من التنافس والكراهية بين الأمراء.
بعد عودة الأشرف من الشام إلى مصر منتصرًا تملكته مشاعر الغرور والتعاظم فراح يعامل الأمراء بخشونة واستخفاف وأصبح يعلم على الأوراق والمستندات بحرف "خ" فقط دون إسمه مما أغضب الأمراء ، وفوق ذلك كان الأمراء يكرهون وزيره ابن السلعوس الذي أتى من سوريا ، ولم يكن في الأصل أميرًا أو مملوكًا وإنما كان تاجرًا دمشقيًا ، وتقلد منصب الوزارة الرفيع بدلًا من الأمير الشُجاعي ، وراح يغدق عليه الاشرف ويفضله على كبار الأمراء لمكانته ، وكان إبن السلعوس يتعالى على الأمراء.]
في شهر ديسمبر عام 1293 ذهب السلطان الأشرف إلى تروجة القريبة من مدينة الأسكندرية ، في رحلة صيد طيور ، وكان في صحبته وزيره ابن السلعوس ونائب سلطنته بيدرا.
وطلب الأشرف من ابن السلعوس الذهاب إلى الإسكندرية لتحصيل العائدات. فلما وصل إبن السلعوس إلى الإسكندرية تبين له أن نواب الأمير بيدرا قد حصلوا العائدات من قبل ، فكتب للأشرف يعلمه بما فعله بيدرا ، فلما بلغت الرسالة الأشرف غضب واستدعى بيدرا إلى دهليزه وراح يعنفة ويهدده في حضور الأمراء. خرج بيدرا من دهليز الأشرف مضطربًا خائفًا فجمع عددا من الأمراء من خشداشيته ومنهم حسام الدين لاجين وقرا سنقر وإتفقوا على قتل السلطان .
في 21 ديسمبر 1293، وبينما الأشرف يتجول مع صاحبه الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل ، جاءه بيدرا والمتآمرون معه ، وكان من بينهم لاجين وألطنبغا رأس نوبة وإغتالوه بسيوفهم .
بعد إغتيال الأشرف توجه المتآمرون إلى الدهليز ونصبوا بيدرا سلطانًا ولقبوه بالملك الأوحد - أو الملك القاهر - ولكن بيدرا لم ينعم طويلا بسلطنته حيث قبض عليه المماليك السلطانية بقيادة كتبغا وبيبرس الجاشنكير وقتلوه ، وأرسلوا رأسه إلى القاهرة ، وقبض على الأمراء المتآمرين عدا حسام الدين لاجين وقرا سنقر الذين فرا واختفيا ، وقبض الأمراء ، وعلى رأسهم الشجاعي ، على إبن السلعوس ، بعد عودته إلى القاهرة حيث حُبس وضُرب حتى الموت.
بعد موت الأشرف خليل اتفق الأمراء - وعلى رأسهم سنجر الشجاعي - على إخفاء الأمر لبعض الوقت وعلى تنصيب أخيه الصغير الناصر محمد سلطاناٌ على البلاد ومعه كتبغا نائبًا للسلطنة والأمير الشجاعي وزيرًا ، وكان الناصر محمد صبيًا في نحو التاسعة من عمره.
وأرسل إلى الحكام في الشام مكتوباً على لسان الأشرف مضمونه : "إنّا قد إستنبنا أخانا الملك الناصر محمدًا وجعلناه ولي عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا" ، وطلب من أمراء الشام تحليف الناس للملك الناصر محمد ، وأن يقرن إسمه بإسم الأشرف في الخطبة ، وبعد أن إستقرت الأمور ورتب الأمراء أمورهم أعلن في البلاد عن وفاة السلطان خليل ولبس جواري الأشرف الحداد ، وطافت النواحات في شوارع القاهرة وأقيمت المآتم وساد مصر الحزن ، وإحتشدت العامة في الشوارع والميادين للفرجة على عقوبة وإعدام المتآمرين.
الصراع مع بيبرس الجاشنكير والإنتقام منه
لقد بدأ الناصر ولايته الثالثة بالقبض على عدد من الأمراء وحبسهم بالإسكندرية ، وأفرج عن بعض المساجين والأمراء ، كان من ضمنهم : شيــخ الإسلام إبن تيميـــــة ، والأقوش المنصوري قاتل سنجر الشجاعي ، كما جرد عدداً من الأمراء إلى دمشق ، وأمر اثنين وثلاثين من مماليكه.
ثم بعد أن إنتهى من ذلك ، بدأ يجهز للإنتقام من بيبرس الجاشنكير وسلار ، فطلب بيبرس الجاشنكير الأمان من الناصر، ورد الأموال التي كان قد نهبها قبل فراره من القلعة ، وقد سلمها بيبرس الدوادار إلى الملك الناصر ، إلا أن الناصر أمر بالقبض عليه ، رفض بيبرس مقاتلة الرجال الذين أرسلهم الناصر للقبض عليه وقام بتسليم نفسه عند غزة للأمير أسمندر كرجي، فقام بنقله مقيداً إلى الناصر في قلعة الجبل. فلما مثل بين يدي الناصر عنفه الناصر وراح يذكره بما فعل به، وبعد أن عدد له اساءاته ختم كلامه قائلاُ: " ويلك وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي ". فقال بيبرس : " يامولانا السلطان كل ماقلت فعلته ، ولم تبق إلا مراحم السلطان ". فقال له الناصر: " يا ركن الدين أنا اليوم أستاذك ، وأمس تقول لما طلبت أوز مشوي إيش يعمل بالأوز، الأكل هو عشرون مرة في النهار "، وأمر بإعدامه فخنق ودفن خلف القلعة .
لقد كان وجود الملك الناصر في الكرك وتحركاته تقلق السلطان بيبرس الجاشنكير ، فتحجج بحاجته للمال ، بسبب إمكانية مهاجمة خربندا ملك المغول للشام ، وطلب منه إرسال كل الأموال والخيول التي أخذها معه من مصر وكل الأموال التي استولى عليها من حاصل الكرك بالإضافة إلى كافة المماليك بإستثناء عشرة مماليك لخدمته ، وهدده بأنه إن لم يفعل ذلك " خرجت إليه العساكر حتى تخرب الكرك عليه " ، فأرسل الناصر إليه نصف المال المطلوب مع رسالة شفهية ، تعتذر عن عدم إمكانية إرسال كل المطلوب ، فقنع بيبرس الجاشنكير بذلك.
إلا أن الأمور لم تستقم لبيبرس الجاشنكير الذي لم يكن محبوبا عند المصريين بسبب سوء الأحوال الإقتصادية والسياسية في البلاد ، ففي عهده عم الوباء وإنخفض منسوب مياه النيل ، وإرتفعت الأسعار ، وحدث قحط وغلاء في مصر ، فراح الناس يطالبون بعودة الناصر محمد ويهزءون من بيبرس ونائبه سلار ويغنون : " سلطاننا ركين ونائبنا دقين ، يجينا الماء منين جيبوا لنا الأعرج ، يجى الما ويدحرج" .
مع مرور الوقت زاد إضطراب بيبرس الجاشنكير ، وأصبح أمر الملك الناصر يؤرقه وينغص عليه ، فنصحه أمراءه بالقبض عليه ، إلا أنه خشى عاقبة اقدامه على فعل ذلك ، لكنه أرسل إليه الأمير مغلطاي لياخذ منه الخيل والمماليك ، فغضب الملك الناصر وقال له : " أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندى أو مملوك لى ، ويكرر الطلب ؟ ارجع اليه، وقل له والله لئن لم يتركنى والا دخلت بلاد التتر ، وأعلمتهم أنى قد تركت ملك أبى وأخى وملكى لمملوكى ، وهو يتبعنى ويطلب منى ما أخذته" ، فلما رد عليه مغلطاي بقلة احترام صاح به : " ويلك! وصلنا إلى هنا؟" ، وأمر بجره ورميه من سور القلعة ، لكنه عفا عنه واكتفى بحبسه بعد أن شفع فيه الأمير أرغون الدوادار ، ثم طرده.
كتب الناصر رسائل إلى بعض نواب الشام ومؤيديه من أمراء مصر يستعطفهم ويثيرهم على بيبيرس الجاشنكير ، فشرح لهم أنه ترك مصر بسبب ضيق اليد والتدخل في شئونه ، وأن الملك المظفر يضايقه من حين لأخر بمطالبته بالمال والخيل والمماليك. وقال لهم: " أنتم مماليك أبي وربيتموني ، فإما تردوه عني إلا أسير إلى بلاد التتار". وتعاطف بعض الأمراء مع الناصر محمد وأعلنوا عن تأييدهم له. وأرسل الأمير بهادرآص من دمشق إلى بيبرس يعلمه أن نواب الشام قد مالوا إلى الناصر وأن عليه الخروج إلى الشام. فأجاب بيبرس بأنه لا يخرج لأنه يكره الفتنة وسفك الدماء وأن الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر، فإما أن يرضى النواب بذلك أو يتنحى.
دخل الملك الناصر دمشق في شهر شعبان بتأييد غالبية الأمراء وزينت الشوارع وفرح الناس بقدومه وكثر الدعاء له.
وفي يوم الجمعة 12 شعبان إحتشد الناس في الميدان للصلاة وخطب له ، فلما وصلت الأنباء إلى القاهرة ، إستدعى بيبرس الجاشنكير كل الأمراء وإستشارهم ، فنصحه بيبرس الدوادار وبهادر آص ، بخلع نفسه والذهاب إلى الناصر ليستعطفه ، فوافق وارسل بيبرس الدوادار إلى الناصر ، لكنه أصيب بإضطراب في آخر النهار ، فدخل الخزائن وأخذ ما إستطاع من المال والخيل والهجن وفر مع مماليكه فلحقت بهم العامة وراحت تسبهم وتلقيهم بالحجارة إلى أن تمكنوا من الفرار ، وفي صباح اليوم التالي أمر سلار حراس قلعة الجبل بالهتاف باسم الملك الناصر ، وفي يوم الجمعة خطب على منابر مصر باسمه وأسقط إسم الملك المظفر.
في أول أيام شهر شوال وصل الناصر إلى القاهرة وصلى صلاة العيد بالدهليز، وفي اليوم التالي جلس على تخت الملك للمرة الثالثة ، في فترة حكمه الأولى كان الناصر دمية في أيدى العادل كتبغا والشجاعي وفي الفترة الثانية، مع أنه كبر وأصبحت له أعمال يعتز بها، إلا أنه عاش محجوراً عليه عن طريق بيبرس الجاشنكير وسلار اللذان كانا يمارسان السلطان الفعلي ويتحكمان في معاشه.
أما هذه المرة فقد عاد إلى مصر وقد جاوز سن الطفولة وأصبح في الخامسة والعشرين ، وقد صقلته الأحداث وحنكته التجارب ، عاد الناصر إلي تخت السلطنة هذه المرة عازماً على الإنتقام لنفسه ممن أساءوا إليه ومصمماً على ألا يترك أحداً يستصغره أو يتآمر عليه.
الصراع مع بيبرس الجاشنكير والإنتقام منه
الصراع مع سلار والإنتقام منه
طلب سلار من الناصر محمد أن يعفيه من نيابة السلطنة ، وأن يعينه حاكماً على الشوبك ، فإستجاب الناصر مؤقتاً ، وعين الأمير بكتمر نائباً للسلطنة بدلاً منه، وسافر سلار إلى الشوبك وظن أن الناصر قد عفا عنه ـ إلا أن بعد مرور بعض الوقت، استدعاه الناصر إلى القاهرة ، وأمر بحبسه وصودرت أملاكه وممتلكاته، وكان سلار من أغنى الأمراء محباً لجمع المال ، فقد بلغت ثروته المصادرة أكثر من خمسين حملاً من الذهب والفضةوالجواهر واللجم المفضضة والأقمشة المزركشة وغير ذلك. ومات سلار بالسجن ودفن في التربة التي كان قد أنشأها بالقرب من جامع أحمد بن طولون.
الصراع مع بكتمر الجوكندار والأمير بتخاص
في عام 1310 م ـ تآمر نائب السلطنة بكتمر الجوكندار والأمير بتخاص المنصوري مع المماليك المظفرية على الإطاحة بالناصر محمد وتنصيب الأمير موسى بن الصالح علي بن السلطان قلاوون سلطاناً على البلاد.
وقد وافق موسى على الخطة ولكن المؤامرة وصلت إلى علم الناصر محمد بعد أن وشى بهم بيبرس الجمدار أحد المماليك المظفرية ، وقبض على موسى وبتخاص ، وأمهل بكتمر الجكندار سنة ثم قبض عليه بتهمة محاولة الإستيلاء على الحكم ، وأحل محله الأمير بيبرس الدوادار في نيابة السلطنة .
باع الناصر محمد وخبرته الطويلة مع الأمراء وألاعيبهم جعلته دائماً متيقظ ومترقب وشاك في كل صغيرة وكبيرة تصدر عنهم أو عن غيرهم ، فكان إذا رأى بادرة خروج أو تمرد قضى عليها في الحال لدرجة أنه في عام 738 هـ م / 1338 م نفى الخليفة " المستكفي با لله " ذاته إلى قوص بحجة إستخدامه عبارة " يحضر أو يوكل " (أي الناصر) في مستند دعوى شرعية أقامها شخص ضد الناصر ، وكان الناصر لا يحب هذا الخليفة لمساندته لبيبرس الجاشنكير وتقليده السلطنة من قبل .
ويذكر المقريزي أن الناصر :" كان فيه تؤدة ، فإذا غضب على أحد من أمرائه أو كتابة أسر ذلك في نفسه ، وتروى فيه مدة طويلة ، وهو ينتظر له ذنباً يأخذه ". ويضيف : " حتى لا ينسب إلى ظلم ولا حيف ، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر أو فيه حيف ".
ببطء ولكن بنظام وحسابات دقيقة أمسك الناصر بزمام الأمور، وانتقم من الأمراء الذين أسؤوا إليه وهو صغير والذين تأمروا عليه وهو كبير بعد عودته إلى مصر. وعمد إلى أخذهم بجرائرهم وليس بالظلم والتلفيق ، قام الناصر بإلغاء بعض مناصب الدولة ومنها منصب الوزير في 713 هـ / 1313 م ، وصادر أموال أرباب الدولة الفاسدين الذين كونوا ثرواتهم من الرشاوي واستغلال المناصب، وأبعد المغول الاويراتية عن مناصب الدولة ، وألغى في 715 هـ / 1315 م المكوس الجائرة التي فرضها الأمراء ورجال الدولة على عامة الناس لإثراء أنفسهم وكان هذا جزء من سياسته للحد من نفوذ وقوة الأمراء ، وأبطل الرشوة ، وعاقب عليها .
الصراعات الداخلية وإضطهاد الأقباط في مصر
لقد وقعت خلال فترة حكم الناصر ، سلسلة من الإضطرابات الداخلية في الصعيد نتيجة لخروج العربان عن القانون وقطعهم الطريق امتناعهم عن دفع الخراج ، ولكن أمكن السيطرة عليها بسهولة - إلا أنه في فبراير 1321 م - حدث أن نشبت مشاحنات بين المسلمين والمسيحيين بعد أن أصيبت بعض الكنائس في نفس الوقت في أنحاء مختلفة من مصر بأضرار ، وتبع ذلك نشوب حرائق في بعض المساجد والمباني بالقاهرة وقد أدت تلك الحرائق إلى نشوب حريق هائل ، وقبض على بعض المسيحيين أثناء محاولتهم إضرام النار في بعض المباني والمساجد واعترف أحدهم أن البعض اجتمعوا وصنعوا خرق بها نفط وقطران ، ووزعوها على بعض الناس لإشعال الحرائق انتقاماَ من الاعتداء على بعض الكنائس ، وأمر الناصر بإستدعاء البطريرك الذي أدان ماحدث ، وقبض على بعض المسلمين وعوقب مثيري الشغب من الطرفين ، وقد أدت الهجمة الغربية الصليبية على بلاد المسلمين ، إلى إثارة الضغائن أحياناً بين المسلمين والمسيحيين المحليين في بلاد المسلمين .
أعمال الإصلاح وتنظيم الإدارة الداخلية
في إطار خطة الإصلاح التي وضعها الناصر ، فقد قام بتعيين الناصر محمد الأمير إبن الوزيري رئيساً لدار العدل والأوقاف في سنة 713 هـ ، وكان الوزيري رجلاً أميناً ومعروف بكرهه للفساد والمفسدين ، وقد كثر الدعاء على الناصر بسببه ، وكان الناصر يذهب بنفسه في كل يوم اثنين إلى دار العدل للإصغاء إلى شكاوي عامة الناس من أرباب الدولة والأمراء والموظفين وأصدر قراراٌ يمنع النواب من معاقبة المتهمين والإساءة إليهم بدون تصريح منه ، ومنع ضرب الناس بالمقارع ، وأغلق جب القلعة الذي كان يستخدم سجناً وكانت له سمعة سيئة وتسكنه الخفافيش في عام 714 هـ / 1314 م ألغى الناصر منصب نائب السلطان ، وأحدث وظيفة " الناظر الخاص "، وفي عام 715 هـ / 1315 م أجرى الروك الناصري الذي أعاد توزيع الإقطاعات وحد من قوة الأمراء ،وقد بلغ النظام الإداري في عهد الناصر محمد مبلغاً عظيماً في الدقة والتنسيق.
عودة
هجمات المغول في فترة الحكم الثالثة
في فترة حكم الناصر محمد الثالثة لم تشهد البلاد تهديدات خارجية وذلك بسبب ضعف الصليبيين والمغول نتيجة لهزائمهم المتكررة وخسائرهم الفادحة والتهائهم في صراعاتهم الداخلية.
في سنة 1314م فتح سيف الدين تنكز نائب الناصر في الشام ملاطية وضمها للسلطنة ، وقامت قوات الناصر بغارات على مملكة كيليكيا (مملكة أرمينية الصغرى) ، وفي سنة 716 هـ / 1316 م أغار المغول بجيش صغير على حلب ولكن تصدى لهم التركمان وقتلوهم ، وأرسلوا أسراهم إلى القاهرة ، ولكن الأمور لم تتطور إلى حروب كبيرة.
أزمة إقتصادية وقحط وغلاء في مصر
على الرغم من إنتعاش الإقتصاد المصري والرخاء الذي عم مصر إلا أنه حدثت بعض الإضطرابات المالية وإرتفاع في الأسعار نتيجة لظهورعملات مغشوشة وأخرى تحت الوزن القانوني (زغل) في الأسواق ، مما أدى في سنة 724 هـ / 1323 م إلى توقف الناس عن أخذ النقود واغلاق الحوانيت ، وتم التعامل بالنقود بالوزن وليس بالعدد ، وقد واجه الناصر تلك المشكلة بطرح آلاف العملات في الأسواق لمحاربة العملات المغشوشة ، وحددت أسعار جديدة لصرف الدينار .
دينار الملك الناصر نصر الدين محمد
فترات الرخاء والإزدهار لمصر في عهد الملك الناصر
في عهد الناصر إرتفعت مكانة مصر في العالم الخارجي وسعت البلاد الإسلامية والمسيحية على السواء لخطب ودها ، وأصبحت القاهرة قبلة للمتوددين والزوار من شتى الأرجاء ، وخطب بإسم الناصر على منابر بغداد التي كانت في حوذة مغول فارس، ونقش إسمه على نقودها ، كما خطب ملوك بني رسول في اليمن للناصر وأرسلوا له الهدايا.
الإهتمام بالبناء والمعمار والنهوض بمنظومة الزراعة
كان الملك الناصر مولع بالعمارة وينفق عليها ببذخ ، وفي فترة حكمه الثالثة شيد في مصر مالم يشيده أي سلطان آخر ، وتحولت القرى إلى مدن منفردة ، أعاد حفر خليج الإسكندرية ، وأنشأ البساتين ومزارع قصب السكر على ضفتيه، وأنشأ الميدان تحت القلعة ، وغرس فيه النخل والأشجار ، وأنشأ الميدان الكبير على نيل القاهرة وزرع فيه أشجار الفاكهة.
منبر ومحراب من عصر
الملك الناصر محمد
وعمر الخانكاة بناحية سرياقوس ، وحفر الخليج الناصري خارج القاهرة حتى أوصله بسرياقس وعمره بالقناطر ، وشيد الجسور ومد الترع وأحيا الأراضي في كل أنحاء مصر ، وجدد نحو ثلاثين جامع قديم منها الجامع الناصري بالقلعة وجامع المشهد النفيسي ، وكانت أغلب عمائره من الحجارة لأنه كان يخشى عليها من الحريق.
العلاقة بين الملك الناصر والكنيسة في روما
في يونيو 1327 م - وصلت إلى القاهرة سفارة من بابا الكاثوليك : جون الثاني والعشرين ومعهم هدية ، ورسالة من البابا يرجو فيها من الناصر حماية المزارات المسيحية في الأراض المقدسة ، ووقف الحملات على مملكة أرمينية الصغرى ، وكانت هذه أول سفارة باباوية تفد إلى مصر منذ عهد السلطان الأيوبي الصالح أيوب.
الناصر يرفض سداد منحة بيت المقدس لملك فرنسا
وفي عام 1330 م - أرسل فيليب السادس ملك فرنسا إلى القاهرة سفارة ضخمة قوامها 120 رجلاً ، طالباً من الناصر منحه بيت المقدس وبعض المناطق على ساحل الشام، فأهان الناصر رجال السفارة وملكهم ، وقال لهم : " لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم "، وطردهم من مصر .
مشاهير الشخصيات المعاصرة
الرحالة إبن بطوطة
كان الرحالة الشهير إبن بطوطة هو أحد مشاهير عصر حكم الملك الناصر نصر الدين محمد ، الذين زاروا مصر في سنة 725 هـ / 1324 م ، وهو في طريقه إلى الحج في عهد الناصر محمد ، وذكر في كتابه تحفة النظار مشيداً به : " وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي ، وللملك الناصر السيرة الكريمة والفضائل العظيمة ، وكفاه شرفاً انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين ، وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج ، من الجمال التي تحمل الزاد ، والماء للمنقطعين والضعفاء ، وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي " .
وفي عام 1330 م - أرسل فيليب السادس ملك فرنسا إلى القاهرة سفارة ضخمة قوامها 120 رجلاً ، طالباً من الناصر منحه بيت المقدس وبعض المناطق على ساحل الشام، فأهان الناصر رجال السفارة وملكهم ، وقال لهم : " لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم "، وطردهم من مصر .
الرحالة إبن بطوطة
تاريخ النياحة : 5 طوبه 1016 للشهداء - أول يناير 1300 للميلاد
إرسال تعليق