موسوعة أقباط مصر
المعلم جرجس الجوهري
مقدمــــة
يُعد جرجس الجوهري - أو المعلم " جرجس الجوهري " ، من مشاهير الأقباط خلال القرن الثامن عشر الميلادي ، وهو شقيق المعلم إبراهيم الجوهري ، وليست شهرته فقط في علو المنصب ، وعِظَمِ المكانة ، بل لِما إمتاز به من العقل وكرم الأخلاق وعمل المعروف للجميع بدون تمييز بين مسلمٍ ونصرانيٍ ، وعدم التدخل فيما لا يعنيه وعظم النفس والصدق ، حتى نال ثقة الجميع على إختلاف أجناسهم ومشاربهم. وقد باشر أمور الحكومة في أربعة عهود مختلفة وإحتك بكثير من حكام متباينين في العادات والأخلاق والدين وقد عاصر المعلم جرجس جوهرى إثنين من البطاركة هما البابا يؤنس 18 والبابا مرقس الثامن من باباوات الكنيسة القبطية المعلم جرجس جوهرى من مشاهير الأقباط .
النشأة الأولى والتدرج في المناصب الحكومية
في خلال الفترة من آواخر القرن 18 وأوآخر القرن 19 - نشا المعلم جرجس الجوهرى في مدينة قليوب وكان يذهب مع أخية إلى الكتاب فتحصل على العلم هناك وكانت العلوم التي تحصل عليها الكتابة والقراءة والحساب علاوة على تعلم اللغة القبطية وإتقانها والألحان الكنسية وفن نسخ الكتب . وقد تزوج المعلم جرجس ورزق بأبنه أسماها مختارة وكان عظيم النفس كريما وجزيلاً في عطاءه يوزع في المناسبات الشئ الكثير من الطعام والملابس على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل . وعندما وصل أخيه إبراهيم إلى مركز مرموق في الحكومة أشركه في جميع الأعمال التي يمارسها، وكان ملازماً لأخيه ملازمة الظل للأنسان فكان ذلك له اثر كبير في مستقبل حياته الوظيفية وأساسا لأختياره لرياسة المباشرين (رياسة الوزراء) بعد وفاه أخيه المعلم إبراهيم جوهرى .
المعلم جرجس الجوهري
يذكر التاريخ أنه لما مات أخوه المعلم إبراهيم الجوهري قلُده إبراهيم بك منصبه ، فأصبح كبير كتبة مصر ، إقتدى بأخيه في كل شيء حتى نال ثقة المصريين ، مسيحيين ومسلمين ، وكان بين الكتبة الذين تحت إدارته رجل سوري الأصل يُدعى يوسف كسّاب سوّلت له نفسه أن يوشي به لدى إسماعيل بك الذي غضب عليه وعزله من منصبه ، لكن بعد مدة وجيزة إكتشف إسماعيل بك كذب يوسف وخيانته، فأمر بتغريقه في نهر النيل ، وأعاد المعلم جرجس إلى منصبه ، وظل يعمل المعلم جرجس يعمل رئيساً حتى عاد إبراهيم بك و مراد بك إلى الحكم سنة 1791 م ، فترك جرجس منصبه عن رئاسة المباشرين لأخيه إبراهيم الجوهرى الذي كان صديقاً لأبراهيم بك ومراد بك . وعندما توفى المعلم إبراهيم سنة 1795 م أعطى إبراهيم بك ومراد بك منصب رئاسة المباشرين إلى المعلم جرجس .
أبرز الأحداث والشخصيات المعاصرة
الحملة الفرنسية على مصر
غزت الحملة الفرنسية مصر في يوليه 1798 م ، ولم يجد نابليون بونابرت رجلاً حكيماً مثل المعلم جرجس في البلاد فثبته في رئاسته للمباشرين في مصر وأعتبره عميد الأقباط وحدث أنه بعد إستقرار الفرنسيين بشهرين أنهم أرادوا الإحتفال بأحد اعيادهم الفرنسية، فدعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبط والشوام ، وفي هذا الأحتفال لبس جرجس الجوهرى كركة بطرز قصب على أكتافها إلى أكمامها ، وعلى صدرها شماسات قصب بأزرار، وكذلك فلثيوس، وتعمموا بعمائم كشميرى وركبوا البغال الفارعة وأظهروا البشر والسرور.
وعندما ذهب نابليون بونابرت إلى السويس طلب أن يكون بعض المشايخ والمديرين والمهندسين والمصورين ، كما إستصحب المعلم جرجس الجوهرى والمعلم أنطون أبو طاقية للأستعانة بخبرتهما ومهارتهما ومشورتهما .
وعندما رست مراكب الأنجليز والترك عند أبى قير ، وأنزلوا قواتهم هناك ، وأراد الفرنسيين تعدية النيل إلى الضفة الأخرى من ناحية بولاق أخذوه أيضاً معهم .
وظل المعلم جرجس في مركز الرياسة طيلة احتلال الفرنسيين مصر لمدة الثلاث السنين وظلوا يأخذونه معهم وأستصحبوه معهم حتى جلاؤهم لمصر سنة 1801 م.
وفى الفترة الأخيرة من الحملة الفرنسية حين اصبح بليار قائدا في مصر أثناء أنشغال الجنرال عبد الله جاك مينو سابقاً لقيادة الجيش الفرنسى لصد المهاجمين النجليز بالأسكندرية أتخذ الجنرال بليار بيت جرجس الجوهرى مسكناً للإقامة فيه.
ثم أراد الجنرال بليار هدم بقايا المنازل التي تهدمت نتيجة للمعارك السابقة والمجاورة لمنزل جرجس الجوهرى لكى يبنى ثكنات عسكرية، فنصب خيمة عند بيته على مقربة من العمل حتى يباشر عمليات الهدم والبناء، وأعد مساعده قوائم بأرباب الحرف وأمروهم بالحضور وأبتدأوا بالأقباط، فحضر الأقباط يتقدمهم جرجس الجوهرى وواصف وفلثيوس يصحبهم مجموعه تطبل وتزمر، فكان العمالى يشتغلون على أنغام الطبل والزمر والغناء، وأستمروا ذلك عدة أيام ثم تبعنهم طوائف أخرى، ومع أن هذا العمل سر الجنرال بلير إلا أنه طالب المطبلين والمزمرين بدفع مبالغ من المال، فمن دفع مبلغاً يرضيه أنقص ساعات عمله، ومن دفع مبلغاً أقل مما يبتغيه أطال عليه مدة العمل وأتعبه.
سقوط الحكم العثماني لمصر ونهايته
في خلال حياة المعلم جرجس الجوهري ، دخلت الجيوش العثمانية مصر بعد جلاء الفرنسيين وعاثوا في الرض فساداً ، وهرب عدد كبير من الأقباط إلى مصر القديمة والجيزة خوفاً من سكين المسلمين الذي قطع رقابهم ، كما حدث في المرات السابقة : " أما أكابر القبط مثل جرجس الجوهرى وفلثيوس ، وملطى فإنهم طلبوا الأمان من المسلمين لكونهم إنحصروا بدورهم وهم بوسطهم فأرسلوا لهم الأمان ، عنها وعين السلطان خسرو محمد باشا حاكماً على مصر .
وفى سنة 1802م جاء إلى مصر عدد من سيدات الباب العالى ومعهن زوجة قبطان باشا ، فتبارى العظماء في إكرامهم ومعهم جرجس الجوهرى ، وقد قام جرجس الجوهرى بإستضافة بعضهن في بيته ، فأعد داراً إعداداً خاصاً فاعتنى بفرش هذه الدار عناية خاصة حتى لقد فرش بساطاً من الكشمير في مَدخلها ، وقد تم زواج أثنين من السيدات منهن في آن واحد وأقيمت وليمة العرس في هذه الدار.
وظل أيضا المعلم جرجس جوهرى في منصبه رئيساً للمباشرين ومع كل هذه الخدمات التي أداها لتسيير أمور العثمانيين لم يلبث أن أطلق الوالى عسكره على بيوت الأقباط الكبار لينهبوها - فنهبوا بيت جرجس ،وأخذوا منه نفائس كثيرة والفراوى الثمينة.
وحدث تمرد من الجنود انتهت أخيراً بتعيين محمد على حاكماً لمصر سنة 1805 م ، وظل أيضاً المعلم جرجس في منصبه رئيساً للمباشرين أيضاً.
فترة ولاية محمد على لمصر
يقول المؤرخ " الجبرتي " - أن محمد علي باشا بدأ تصرفاته بالعمل على تعزيز كلمته وإظهار سلطانه ، وتأييد مقامه واسترضاء الجند ، وصرف المتأخر من مرتباتهم ، ففرض على قبط مصر وعلى عظمائهم جزية.
قال صاحب الكافي :
" قُبِضَ على المعلم جرجس الجوهري معلم مصر يومئذ وصاحب خِراجها (الضرائب)، وعلى جماعة من عظماء القبط وسجنهم ببيت كتخدا، وطلب من المعلم جرجس الجوهري حسابه عن سنة 1215 م ".
وبعد أن تولى محمد علي الحكم نال لديه المعلم جرجس المقام الأول لِما يسديه إليهم من الهدايا والعطايا، حتى كانوا يسمونه جرجس أفندي. وكان عظيم النفس ويعطي العطايا ويوزع على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع والسكر والأرز والبن والملابس. غير أن الوالي سرعان ما انقلب عليه بعد ذلك مختلقًا سببًا وهو عدم مبادرته إلى جباية كل ما كان يطلبه من الضرائب، ولعل ذلك كان شفقة من المعلم جرجس على الأهالي، فقبض عليه ومن معه من الأقباط بحجة أن في ذمته مبالغ متأخرة من حساب إلتزامه.
يقول توفيق إسكاروس : "في يوم الأربعاء 17 جمادي الأولى سنة 1220هـ قبض محمد على باشا على جرجس الجوهري ومعه جماعة من الأقباط ، فحبسهم ببيت كتخدا، وطلب حسابه من ابتداء سنة خمسة عشرة، وأحضر المعلم غالي الذي كان كاتب الألفي بالصعيد وألبسه منصبه في رآسة الأقباط.
وفي يوم الأربعاء (24 منه) افرجوا عن جرجس الجوهري ومن معه على أربعة آلاف وثمانمائة كيس وأن يبقى على حاله. فشرع في توزيعها على باقي الأقباط وعلى نفسه وعلى كبرائهم وصيارفهم ما عدا فتيوس وغالي، وحوّلت عليه التحاويل وحصل لهم كرب شديد وضج فقراؤهم واستغاثوا. اضطر المعلم جرجس إلى بيع كثير من أملاكه في الأزبكية وقنطرة الدكة، ثم لجأ إلى الصعيد ويُقال أن محمد علي قد نفاه هناك. قبل رحيله إلى الصعيد جمع كل حجج أملاكه وسلمها إلى البطريركية كوقفٍ لها لتنفق من ريعها، وقد صُرح له بالعودة إلى القاهرة بعد أربع سنوات فعاد سنة 1809 م. وقابل الباشا ، فأكرمه ، ثم نزل بيته الذي كان المعلم غالي قد أعده له، وتقاطر وجوه المدينة من جميع الملل للترحيب به ، ولكن المنية عاجلته فتوفى في 27 سبتمبر 1810م ، ودُفِنَ بدير مار جرجس بمصر القديمة ، بجوار أخيه المعلم إبراهيم الجوهري.
وقد ذكر المؤرخ " الجبرتي " عن المعلم جرجس الجوهرى والمعلم غالى العديد من المواقف في خلال عهد ولاية محمد على باشا لمصر ، فقال : " ولما مات أخوه في زمن رياسة المراء المصريين تعين مكانه في الرياسة على المباشرين والكتبة وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيين فكان رئيس الرؤساء وكذلك عند عند مجئ الوزير والعثمانيين وقدموه وأجلسوه لما يسديه إليهم من الهدايا والرغائب حتى كانوا يسمونه جرجس افندى، ورأيته يجلس يجلس بجانب محمد باشا خسروا وبجانب شريف افندى الدفتردار ويشرب بحضرتهم الدخان وغيره، ويراعون جانبه ويشاورونه في الأمور، وكان عظيم النفس ويعطى العطايا ويغدق على جميع ألأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع والعسلية والسكر والأرز والكساوى واللبن، ويعطى ويهب ، بنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية وأنشأ داراً كبيرة وهى التي يسكنها الدفتردار الآن ويعمل فيها الباشا وأبنه الدواوين عند قنطرة الدكة، وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم ، ولم يزل على حالته حتى ظهر المعلم غالى وتداخل في هذا الباشا (محمد على) ، وفتح له ألبواب لجمع الأموال، والمعلم جرجس يدافع في ذلك .
وإذا طلب (محمد على) طلباً وأسما (أموالاً من أشخاص بطريقة ما ) يقول له هذا لا يتيسر تحصيله فيأتى المعلم غالى فيسهل الأمور له ويفتح له أبواب التحصيل، فضاق الخناق على المترجم وخاف على نفسه ولازمته الأمراض حتى مات وإنقضى وخلا الجو للمعلم غالى ، وتعيين بالتقادم ، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية، وكل شئ له بداية ونهاية ، والله أعلم .
وفاة المعلم جرجس الجوهري
في السياق ذاته ، أوردت المؤرخة أيريس حبيب المصري سبباً آخر لقتل المعلم غالى فقالت : " ولم تمض غير شهور حتى أمر محمد على رجاله بإغتيال المعلم غالى فنفذ أمره وقتل المعلم المذكور في مدينة زفتى في أوائل يوليو سنة 1822 م ورجح العلامة محمد بك فريد وجدى : أن سبب الإغتيال هو أن المعلم فرنسيس أخو المعلم غالى كان قد كتب خطاباً مزيفاً بأسم محمد على باشا وختمه وزعم فيه أن الباشا يطلب إلى بابا رومية وكان أسمه لاون الثانى عشر في هذا الوقت وطلب منه أن يقيم إبراهيم كاشور (18) رئيس أساقفة على مدينة ممفيس مقابل أخضاع قبط مصر لسلطانه، كما أدعى في خطابه أن محمد على باشا ، منح والد إبراهيم كاشور لقب "مركيز طهطا " .
وكان المعلم فرانسيس قد إندفع في كتابة هذا الخطاب المزيف بسبب إختلاف إحتدم بينه وبين أسقفهم مكسيموس في قضية طلاق ، وهناك صورة لهذا الخطاب المزيف محفوظة في إحدى مكتبات الفاتيكان إستولى عليها غاريبالدى عندما غزوا روما.
مدفن المعلمين جرجس وإبراهيم الجوهري بمصر القديمة
إرسال تعليق