إن المؤرخ الذي يريد أن يرسم صورة صادقة للإمبراطور دوميتيان - سوف يجد في ذلك صعوبة لا تعادلها صعوبة رسم صورة لنيرون نفسه.
ذلك أن أهم المصادر التي نستمد منها معلوماتنا عن حكمه هما مصدران للمؤرخان : " تاسيتوس الروماني " و " بلليني الصغير " ، وكلاهما ممن علا نجمهم في عهده ، ولكنهما كانا من حزب الشيوخ الذين كانت بينهم وبينه حرب عوان يريد فيها كلا الطرفين أن يضرب الضربة القاضية ، ولدينا في مقابل هذين المؤرخين المعاديين له شاعران هما أستاتيوس ، ومارتيال اللذين كانا ينالان رفده أو يسعيان لنيله ، واللذين شادا بذكره ورفعاه إلى عنان السماء ، ولعلهم هم الأربعة كانوا على حق فيما قالوه عنه ، لأن دومتيان آخر الفلافيين بدأ حياته كالملائكة ، وختمها كالشياطين ، وكان شأنه في هذا شأن كثيرين من اليوليوسيين - الكلوديين.
وقد سايرت روح دوميتيان جسده في هذا التطور ، فقد كان في شبابه متواضعاً، رشيقاً ، لطيفاً ، وسيماً ، طويلاً ؛ ثم صار فيما بعد "بطيناً، رفيع الساقين، أصلع الرأس" ، وإن كان قد ألف كتاباً " في العناية بالشعر" ، وكان في كهولته يقرض الشعر أما في شيخوخته فلم يكن يثق بثره ، وكان يعهد إلى غيره كتابة خطبه وتصريحاته.
ولو لم يكن تيطس أخاه لأمكن أن يكون أسعد مما كان ؛ ولكن أنبل الناس وحدهم هم الذين يغتبطون بنجاح أصدقائهم.
أما دومتيان - فقد إستحالت غيرته من أخيه في أول الأمر نكداً صامتاً ثم مكائد تدبر سراً لإسقاطه ، فإضطر تيطس أن يرجو أباه أن يصفح عن أخيه الأصغر.
ولما مات والدة الإمبراطور " فسباسيان " ، إدعى دوميتيان أن أباه كان قد أوصى قبل وفاته ، بأن يكون شريكاً في الحكم ، ولكن الوصية عبثت بها الأيدي ؛ ورد تيتس على هذا الإدعاء بالقول بما مضمونة ، بأنه كان قد عرض عليه أن يكون شريكه وخليفته ، فرفض هذا العرض ، وظل دوميتيان سادراً في مؤامرته .
ويقول المؤرخ " ديوكاسيوس" - إنه لما مرض تيتس ، عجل دوميتيان منيته بأن أحاط جسمه بالثلج ، وليس في وسعنا أن نتأكد من مدى صحة هذه الأخبار ومصداقيتها ، أو غيرها من القصص الني وصلت إلينا عن شهواته الجنسية الطليقة - كقولهم إن دوميتيان كان يسبح في الماء مع العاهرات ، وإنه ضم إبنة تيتس إلى سراريه ، وإنه " كان فاجراً فاسقاً بالنساء والغلمان على السواء " ، ذلك أن التواريخ اللاتينية كلها لا تختلف في شيء عن سياسة هذه الأيام، فقد كانت ضربات توجه للوصول إلى أغراض رجال العصر الذي كتبت فيه.
هذا - وقد أمضى دوميتيان الكثير من شبابه المبكر والوظيفي في ظل شقيقه تيتوس ، والذي اكتسب شهرة اثناء الحملات العسكرية في جيرمانيا في سنة 60 م .
وقد إستمر هذا الوضع في ظل سيادة فسبسيان ، الذي اصبح الإمبراطور 21 ديسمبر 69 م ، وبعد سنة من الحرب الاهليه المعروفة بإسم سنة الأربعة أباطرة.
بينما تقاسم اخيه تيتوس سلطات متساويه تقريبا في حكومة والده ، كان لدوميتيان اليسار مع مرتبة الشرف ، ولكن لا مسؤوليات.
وقد توفي فسبسيان في 23 يونيو 79 ، وخلفه تيتوس ، وجاء عهد تيتوس موجز إلى نهاية غير متوقعة في 13 سبتمبر 81م - وفي اليوم التالي - أُعلن دوميتيان إمبراطوراً وبدأ عهده الذي دام أكثر من خمس عشرة سنة - أي اطول الأباطرة جلوساً على عرش روما منذ عهد حكم الإمبراطور تيبريوس.
فأما من حيث سياسة دوميتيان نفسها ، فإنه كان في العشر سنين الأولى من حكمه متميزاً في أخلاقه قديراً في سياسته إلى حد دهش معه جميع عارفيه.
فقد إتخذ سياسة تيبيريوس وأخلاقه مثلاً يحتذيه.
كما إتخذ فسباسيان أغسطس مثلاً آخر له.
ومن ذلك جعل نفسه رقيباً مدى الحياة ، ثم حرم نشر المطاعن البذيئة ( وإن كان قد غض النظر عن فكاهات مارتيال الشعرية ).
وقد نفذ القوانين اليوليوسية الخاصة بالزنى، وحرم تمثيل المسرحيات الصامتة لمجافاتها الأخلاق ، أمر بضرب عنق عذراء فستية حكم عليها بالزنى - أو بمضاجعة أحد أقربائها المُحرمين عليها ، وقضى على عادة الخصاء وهي العادة التي انتشرت مع إرتفاع أثمان الأرقاء الخصيان ، ولم يكن يطيق رؤية الدم المسفوك ول كان دم الثيران التي يضحى بها في المراسم الدينية.
وكان رجلاً شريفاً ، واسع الفكر ، لم يؤخذ عليه بخل أو شره في حب المال ، وأبى أن يقبل الوصايا ممن لهم أبناء ، وألغى جميع الضرائب المتأخرة من اكثر من خمس سنين ، وأعرض عن المُتجسسين.
وكان في أحكامه صارماً نزيهاً ، وكان له أُمناء سر من معاتيقه ولكنه ألزمهم جميعاً أن يكونوا أمناء صالحين.
إرسال تعليق