527 م - 565م
الإمبراطور جستنيان الأول
مقدمة
هو الإمبراطور "جستنيان الأول - Justinian I" .
يُطلق عليه أيضاً إسم : فلافيوس پتروس يوستيانوس .
ولقد كان إمبراطوراً للقسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية.
وقد حكم منذ أغسطس من عام 527 م ، وحتى وفاته في نوفمبر 565 م .
وقد تولي الحكم بعد وفاة عمه الإمبراطور جستين الأول .
وقد إشتهر الإمبراطور " جستنيان الاول " ، بإنجازاته على طريق الإصلاح القانوني خلال لجنة تريبونيان ، وأيضاً إهتمامه بالتوسع العسكري ، لأرض الإمبراطورية أثناء عهده، وزواجه وشراكته مع الإمبراطورة " ثيؤدورا " .
يعرف أيضاً بإسم "الإمبراطور الروماني الأخير".
هذا - ويعتبر الإمبراطور " جستنيان الأول " - قديساً في الكنيسة الأرثوذوكسية، ويُحيى في الرابع عشر من نوفمبر.
المولد والنشأة الأولى
ولد الإمبراطور الإمبراطور جستنيان في عام 482م من أبوين مزارعين من أصل إليرى أو لعله صقلبي - يقيمان بالقرب من سرديكا ، وهي مدينة صوفيا الحالية. وجاء به عمه جستين الى القسطنطينية ورباه تربية صالحة.
جستنيان والإنضمام لسلك الجندية
ولما أصبح جستنيان ضابطاً في الجيش ، ولبث تسع سنين ياوراً ومساعداً لجستين ، أظهر في عمله براعة عظيمة.
وكثيراً ما كان يظن أعوانه أنه قد آوى إلى مضجعه، بينما كان هو منهكماً في الدرس ، يبذل جهده ليكون موسيقياً ومهندساً ومعمارياً ، وشاعراً ومشترعاً ، وفقيهاً في الدين وفيلسوف ، وإمبراطوراً يجيد تصريف شئون الإمبراطورية.
ولكنه رغم هذا كله لم يتخل عن خرافات عصره. وكان ذا عقل نشيط على الدوام ، عظيم الإلمام بالشؤون الكبرى والتفاصيل الصغرى. ولم يكن قوي الجسم أو شجاعاً ، وقد حدثته نفسه بالتخلي عن الملك في أثناء المتاعب التي قامت في بداية حكمه ، ولم ينزل قط إلى الميدان في حروبه الكثيرة.
المميزات والعيوب الشخصية للإمبراطور جستنيان
لقد كان جستنيان الأول مُتقشفاً في طعامه وشرابه تقشف الزهاد ، لا يأكل إلا قليلاً ، ويعيش معظم أيامه على الخُضر ، وكثراً ما كان يصوم حتى تكاد تخور قواه.
وكان في أثناء صيامه لا ينقطع عما إعتاده من الإستيقاظ مبكراً، وتصريف شئون الدولة " من مطلع الفجر إلى الظهيرة ، وإلى غسق الليل".
مع كل ما تحمل شخصية جستنيان الأول من مميزات وما يشوبها من عيوب ، فقد عمل على أن يجعل ما كان يقام في بلاط الإمبراطور من مراسيم وحفلات غاية في الأبهة والفخامة، حتى فاقت ما كان يحدث منها في أيام دقلديانوس و قسطنطين .
وكان كنابليون يعوزه التأييد الذي يناله المليك الشرعي ، وذلك لأنه ورث الملك من مغتصب له. ولم يكن مهيباً في مظهره ومنشئه، ومن أجل هذا عمد إلى طقوس ومراسيم تبعث الرعب في القلوب كلما ظهر أمام الجماهير أو السفراْء الأجانب.
ولهذا السبب عينه ، شجع فكرة الملكية المقدسة، وإستخدم لفظ مقدس في وصف شخصه وملكه؛ وكان يطلب إلى من يمثلون أمامه أن يركعوا ، ويقبلوا أطراف ثوبه الأرجواني، أو أصابع قدميه من فوق حذاءيه . وعمل على أن يعمده ويتوجه بطريق القسطنطينية، ولبس قلادة اللؤلؤ. وقصارى القول أنه ما من حكومة قد عملت ما عملته الحكومة البيزنطية لتنال إجلاء الشعب له عن طريق المراسيم الفخمة ، ولقد كان لهذه السياسة أثرها إلى حد كبير؛ ولسنا ننكر أنه قد حدثت انقلابات كثيرة في تاريخ البيزنطية ولكنها كانت في معظم الأحوال انقلابات مفاجئة قام بها موظفو القصر، لأن الحاشية نفسها لم تكن ترهبها ما وضعته لنفسها من مراسيم وطقوس.
ولعل من عيوبه الناشئة من دماثة خلقه ورقة طبعه، أن كان من السهل على أصدقائه أن يؤثروا فيه ومن أجل هذا كان كثيراً ما يتقلب في سياسته.
ويخضع في أحكامه لزوجته. وقد خص پروكبيوس جستنيان بمجلد كامل من تاريخه، يصفه بأنه "عديم الإخلاص، مخادع، منافق، يخفي عن الناس غضبه، يظهر غير ما يبطن، حاذق، قادر كل المقدرة على التظاهر بالرأي الذي يدعي أنه يعتنقه ، بل إنه يستطيع في كثير من الأحيان أن يذرف الدمع من عينيه إذا إقتضت الظروف ذلك".
وغير هذا كله يصح أن يكون وصفاً للدبلوماسي القدير. ويلوح أنه كان يتصف بهذا كله في بعض الأوقات، ولكنه كان يستطيع أن يكون رحيماً كريماً.
الجلوس على عرش الإمبراطورية الرومانية
ولما مات عمه جستين في عام 527م ، جلس على عرش الإمبراطورية ، وكان وقتئذ في الخامسة والأربعين من عمره ، متوسط القامة والبنية ، حليق الذقن ، متورد الوجه، متجعد الشعر، رقيق الحاشية ، تعلو ثغره إبتسامة تكفي لأن تخفي وراءها ما لا يحصى من الأغراض ،
أهم الأحداث المُعاصرة
1 - إدعاء بربروس على جستنيان بالخيانة
ومن ذلك أن قائداً يدعى بروبوس Probus ، قد إتهم بسبه ، فجئ به ليحاكم بتهمة الخيانة ، ولما عرض التقرير الذي وضع عن محاكمته على جستنيان ، قام من مقعده وأرسل رسالة إلى بروبوس يقول فيها : " إني أغفر لك ما ارتكبته من ذنب في حقي ، وأدعو الله أيضاً أن يسامحك ".
2 - ثورة نيكا
لقد بلغ خطر الحزبين الذين كانا قائمان خلال عهد الإمبراطور " جستنيان الأول " ، والمعروفان بالحزب الأخضر والحزب الأزرق ، أشده في ثورة نيكا سنة 532م.
وهكذا لم يكن جستنيان في مركز يمكنه من الإلتفات لمشاريعه الكبري قبل سنة 532م - أي قبل القضاء علي الخطر الداخلي ، وتلافي خطر الفرس.
وبالرغم من التنافس السابق بين الحزبين ( الخُضر والزُرق ) ، فقد وحدا صفوفهما ضد جستنيان وأخذ أنصارهما يعيثون فساداً في القسطنطينية.
وهكذا نجا جستنيان من هذا الخطر الداخلي الكبير,بل تمكن في نفس الوقت من القضاء علي الكثير من القوي السياسية التي كانت تمارسها الأحزاب في القسطنطينية ،واستتب الأمر لجستنيان في عاصمته.
وفي نفس العام الذي قضي فيه علي ثورة نيكا ، عقد جستنيان معاهدة مع ملك فارس تعهد الأول بمقتضاها بدفع جزية كبيرة مقابل إيقاف الحروب علي الحدود, وهكذا تمكن جستنيان من أن يأمن جانب الفرس لفترة من الزمن وأصبحت له حرية كبيرة لكي يمارس مشاريعه لإعادة بناء الإمبراطورية.
سياسة الإمبراطور جستنيان في الغرب
كان كل اهتمام جستنيان هو إعادة بناء الامبراطورية الرومانية في الغرب ، فقد كانت كل الولايات الرومانية في الغرب تحت سيطرة حكام من الجرمان,فإن القوط الشرقيين كانوا يحكمون ايطاليا, والوندال في شمال افريقيا ، والقوط الغربيين في إسبانيا ، والفرنج في غاله ، والانجلوساكسونيين في إنجلترا .
وفاة الملكة ثيؤدورا وتأثير ذلك على الإمبراطور جستنيان
لقد توفيت ثيودورا في عام 548 ، وكانت وفاتها أشد الضربات التي حطمت شجاعة جستنيان ، وصفاء ذهنه، وقوة بدنه.
وكان وقتئذ في الخامسة والستين من عمره ، وكان قد أضعفه نسكه وما حل به من ازمات متعاقبة. فترك شؤون الحكم لعماله ، وأهمل وسائل الدفاع التي بذل غاية جهده لإقامتها ، وانهمك في البحوث الدينية، وحلت بالبلاد كوارث لا حصر لها عليه نغصت عليه حياته في السبعة عشر عاماً التي عاشها على حافة القبر.
ومن بين الكوارث التي حلت بالإمبراطورية ، خلال فترة حكم الإمبراطور جستنيان الأول نورد ما يلي تباعاً :
1- كوارث طبيعية وأوبئة ومجاعات
لعل أكثر ما إشتهر به عهد الإمبراطور جستنيان الاول ، ما وقع في خلال عهده من زلازل مُدمرة ، دمرت إثنتي عشرة مدينة ، وكادت تمحو آثارها من الوجود ، ونضب معين خزانة الدولة من جراء النفقات التي تطلبتها إعادة بنائها ، وفشا الطاعون في البلاد في عام542 م ، وما جاء بعده القحط في عام 556 م ، وعاد الطاعون مرة أخرى في عام 558م.
قطعة فنية تصور الإمبراطور جستنيان الأول في أكثر من قصة ترتبط بتاريخه
3 - غزو قبائل الهون للقسطنطينية
وفي عام559 م إجتاز الهون الكتريجور Kutrigur Huns نهر الدانوب ، وهتكوا أعراض الأمهات والعذارى الراهبات ، وألقوا إلى الكلاب بالأطفال الذين ولدتهم السبايا اللائي أخذوهن معهم في زحفهم ، وتقدموا حتى بلغوا أسوار القسطنطينية وإستغاث الإمبراطور في هلعه الشديد بالقائد العظيم الذي طالما أنجاه من الكوارث من قبل.
وكان بليساريوس ، وقتئذِ ضعيفاً منهوك القوى ، ولكنه إنتضى سيفه ، ولبس درعه ، وجمع ثلاثمائة من جنوده المحنكين الذين حاربوا معه في إيطاليا ، وضم إليهم بضع مئات من الجنود غير المدربين ، وسار بهم ليلاقي الهون البالغ عددهم سبعة آلاف رجل.
وقد وزع قواه بما تعوّد من حذق ، وبُعد نظر ، فأخفى مائتين من خيرة جنوده في غابات قريبة من ميدان القتال ، فلما أن تقدم الهون لقتاله ، إنقض هؤلاء على جِناحهم ، بينما كان بليساريوس يتلقى هجوم أعدائه على رأس جيشه الصغير.
وقد إرتد البرابرة على أعقابهم ، وولوا الأدبار قبل أن يصاب روماني واحد بجرح خطير. وغضبت الجماهير في العاصمة لأن بليساريوس لم يقتف أثر العدو ، ويقبض على قائد الهون ويأت به أسيراً.
ودأبت الغيرة في قلب الإمبراطور ، فإستمع إلى وشاية الواشين بقا الكبير ، وإتهمه بالتآمر عليه ، وأمره بأن يسرح جنوده المسلحين ، ولما مات بليساريوس في عام 565 م ، صادر جستنيان نصف ممتلكاته.
إنجازات الإمبراطور جستنيان خلال الحكم
لقد أفلح الإمبراطور جستنيان الأول في تحقيق عدد من الإنجازات تُحسب له خلال فترة توليه الحكم ، نذكر منها :
1- نجاحه في إسترداد أفريقية ، ودلماشيا، وإيطاليا ، وقورسقة ، وسردينيا ، وصقلية ، وبعض أسبانيا، وطرد الفرس من سوريا، وتضاعفت رقعة الإمبراطورية في عهده ضعفين.
2- وضع تشريعات جيدة لتنظيم المعاملات الداخلية في المجتمع ، وقد غدت شريعته هي الأفضل في تاريخ روما الحديث ، لما فيها من وحدة ، ووضوح، وإتساع في الأفق، ذروة في تاريخ القانون.
3- قضاءه على أشكال الفساد الإداري المختلفة ، حيث لم يرد اي ذكر لأي واقعة فساد كانت قد حدثت في خلال فترة تولي الإمبراطور جستنيان الاول للحكم ، أو ثمة وجود لأي واقعة فساد من قِبَل الموظفين ، أو رشوة للحكام ، أو مغالاة في ما يخص الضرائب التي يتم تحصيلها من الشعب ، وتدخل الأهواء، والنزوات في العفو والعقاب؛ بل كانت سياسة حكمه الداخلية ، تتسم بالعمل المتواصل ، من أجل تنظيم حكم الإمبراطورية ، وشئونها الإقتصادية ؛ ولقد أفلحت في إقامة صرح من النظام إن يكن معادياً للحرية فإنه قد حفظ كيان الحضارة في ركن من أركان أوربا في الوقت الذي غرقت فيه سائر القارة في ظلمات العصور المظلمة.
هذا إلى أنه قد خلد إسمه في تاريخ الصناعة والفن كما يشهد بذلك جامع أياصوفيا الذي هو أثر من آثاره.
وما من شك في أن أشياعه من معاصريه قد بدا لهم أن الإمبراطورية قد إستطاعت مرة أخرى أن تصد تيار التدهور ، وأن تبعد عنها يد الردى إلى حين.
الفترة الأخيرة من حياة الإمبراطور جستنيان الأول
وعاش الإمبراطور بعد قائده ثمانية أشهر ، وأثمرت دراسته للدين في سنينه الأخيرة ثمرة عجيبة! ، وهل أعجب من أن يخرج على الدين حامي حمى الدين.
فقد أعلن جستنيان أن جسد المسيح غير قابل للدنس ، وأن طبيعة المسيح البشرية لم تتعرض في يوم من الأيام لحاجة من حاجات الجسد الفاني ، ولا لشيء من مساوئه. وأنذره رجال الدين بأنه إذا مات قبل أن يرجع عن هذه الخطيئة "فسيلقى في نار جهنم ويبقى فيها إلى أبد الآبدين".
ولكنه مات قبل أن يتوب من ذنبه 554م ، بعد حياة دامت ثلاثة وثمانين عاماً، جلس منها على العرش ثمانية وثلاثين.
وكان موت جستنيان نقطة أخرى من النقاط التي يمكن أن تعد خاتمة التاريخ القديم. لقد كان في حياته إمبراطور رومانياً بحق ، يفكر في جميع شؤون الإمبراطورية شرقيها وغربيها على السواء، ويبذل كل ما وسعه من جهد ليصد عنها البرابرة. وليعيد إلى الإمبراطورية الواسعة حكماً منظماً وشرائع متجانسة.
إرسال تعليق