[ بطاركة القرن السابع عشر الميلادي ]
102- البابا متاؤس الرابع – Matthew IV
( جرجس الميري )
1666م - 1675 م
مقدمة
ولد البابا " متاؤس الرابع " ، والمعروف بـإسم : " جرجس الميري " - في بلدة مير التابعة لإقليم الأشمونين ، من أبوين مسيحيين صالحين ، عرف عنهما عمل الخير والصدقات والحسنات على الفقراء والمحتاجين ، حيث أنهما كانا في الأصل ، من أغنياء أهل مير من إقليم الأشمونين بكرسي قسقام المعروف بالمحرق ، وكانت لهما أراض زراعية متسعة ومواشي ، وقد رزقا ثلاثة أولاد ذكور أحدهم هذا الأب الفاضل ، وكان أحب أخوته عند والديه ، وكان إسمه أولا جرجس ، وقد إعتنيا بتربيته ، وهذباه بكل أدب ووقار ، ولم يكلفاه كأخويه بالعمل في الحقل والزراعة ولا برعي المواشي بل جعلاه ينصرف إلى القراءة والتعليم ، حتى صار عالماً بالكتب المقدسة أكثر من أهل جيله ، وأصبح قادراً علي تفسير معانيها لمن أشكل عليه أمرها ، ولما كبر ، زهد هذا العالم الزائل ، ومضي إلى دير السيدة العذراء المعروف بالبراموس في برية شيهيت ، وأقام به ست سنوات ، فتراءى له في حلم أن أبويه حزينان عليه وعرفا عنه أنه مات ، لأنهما لم يهتديا إلى مكانه ، فقام لوقته وأعلم إخوته في الدير ، فأشاروا عليه بالتوجه إلى بلده لرؤية والديه ، فمضي إلى مير وسلم عليهما.
فلما وقع نظرهما عليه فرحا فرحاً عظيماً ، وبعد ذلك أرادا أن يزوجاه ، فلما علم القديس من أخ صديق له بما إعتزما عليه ، هرب وعاد إلى ديره ثانيًا ، فتلقاه أخوته الرهبان بالترحاب والسرور ، وسكن مع هؤلاء القديسين ، وسلك معهم سبيل المحبة والإخلاص وخدمهم الخدمات الصادقة ، فزكوه للرهبنة وبعد ذلك رسم قسًا علي الدير ، وبعد أيام من ذلك لبس الإسكيم المقدس ، وصار يجهد نفسه بالسهر والصلاة والعبادة والسجود أكثر مما فرض علي غيره من الرهبان ، فكان يصوم من الليل إلى الليل وفي زمن الشتاء ، كان يصوم يومين يومين ، وإستمر علي هذا المنوال مدة حياته ، حتى إكتسب رضاء الرب بأعماله الصالحة وعبادته المرضية وتقشفه التقوى.
وقد سلك حياة الرهبنة في دير السيدة العذراء " البراموس " ببرية شيهيت " وادي النطرون " ، ثم رسم قسًا على الدير بعد فترة من رهبنته في دير البراموس
، ثم لبس الإسكيم ، وكان راهباً أميناً في حياته الروحية ، محباً للصلاة ، مداوماً
على العبادة والسهر والسجود ، ونظراً لتقراه وصلاحه ، أجمع الأساقفة والشعب والأكليروس
على إختيارة للترشيح للكرسي الباباوي ، فرسم بابا في يوم 30 هاتور سنة 1377 ش.
الجلوس على الكاتدراء المرقسي
لما تنيح البابا " مرقس السادس " - البطريرك الـ 101 في باباوات الكنيسة القبطية - طلب الآباء والكهنة والأراخنة أن يقيموا لهم راعيًا صالحًا عوضًا عنه سألوا رهبان البراري والأديرة ، عمن يصلح لهذا المركز السامي ، فأرشدهم إلى هذا الأب فطلبوا إليه الحضور إلى مصر ، فرفض إجابة الطلب ، فإضطروا أن يرسلوا جنديًا من قبل الدولة ، فقبض عليه ، وأتي به مقيدًا.
وأما أهل مصر - فأمسكوا قساً آخر من الرجال القديسين يسمي يوحنا - وأرادوا أن يرسموه بطريركًا ، فوقع خلاف بسبب ذلك ، فقبض الوالي علي المرشحين الاثنين وحبسهما عنده مدة أربعين يومًا ، ولما طال الأمر إجتمع الأساقفة ، وأشاروا بعمل قرعة هيكلية ، فَعُمِلَت القرعة أمام الجمهور ، كما عمل الجند أيضاً قرعة فيما بينهم بدار الولاية ، وفي كل مرة كان يسحب إسم جرجس في القرعة ، وفي بعض الليالي كان يشاهد جند الوالي شبه قنديل مضيء فوق رأس الأب جرجس أثناء وجوده في السجن ، فوقع عليه الإختيار بعد الإختلاف الكبير ، ورضي به الشعب ، فرسم في يوم الأحد 30 هاتور سنة 1377 ش. (6 ديسمبر سنة 1660 م.) في عهد السلطان محمد الرابع العثماني.
ويُعد البابا " متاؤس الرابع " ، هو آخر من سكن القلاية البطريركية في حارة زويلة ، لأنه نقل كرسيه إلى كنيسة السيدة العذراء " المُغيثة " بحارة الروم بالقاهرة ، في سنة 1660 م - أول أيام رسامته.
كنيسة السيدة العذراء – حارة الروم
وكان الإحتفال برسامته الباباوية ، إحتفالاً فخماً عظيماً ، حضره كثيرون من طوائف المسيحيين علي إختلاف مذاهبهم ، ولما إعتلي الكرسي البطريركي في القلاية البطريركية بحارة زويلة نظر في الأحكام الشرعية ، والأمور الكنسية بلا هوادة ولا محاباة ، وكان متواضعاً وديعاً لا يحب الظهور والعظمة ، فما كان يجلس علي كرسي في الكنيسة ، بل كان يقف بجانبه إلى إنتهاء الصلاة.
أهم الأحداث المعاصرة
وباء عظيم في بعض قري مصر
في سنة 1387 ش - والموافق لعام (1671 م ) ، حدث وباء عظيم في بعض قري مصر ، هلك فيه الكثيرين .
فترة الضيق والتجارب المعاصرة للخدمة
كان عدو الخير في خلال فترة جلوس البابا " متاؤس الرابع " يُهيج غير المؤمنين علي المسيحيين ، وكان المسيح عز شأنه ، يبدد مشورتهم ويهلكهم ببركة صلواته ، لأنه كان يرعى رعية المسيح الرعاية الصالحة.
أزمة مالية في الكنيسة بسبب جامع الضرائب " القبطي "
لقد قاسي البابا " متاؤس الرابع " من فترات ضيق واجهته أثناء خدمته الباباوية ، إذ دخل الشيطان في قلب رجل مسيحي ، فصار يمضي إلى بيت جامع الضرائب ، ويغرم المسيحيين ، فإشتد بهم الحال ، فشكوه إلى البابا ، فأرسل إليه وأحضره ونهاه ، فلم يرتدع عن غيه ، فحرمه ومات شر ميتة .
سيدة تدعى حملها كذباً من زوجها
حدث أن أتت إليه إمرأة تشكو له بعلها بأنه طلقها وتزوج بأخرى ، فأرسل وأحضره ومعه إمرأته الثانية ، وأمر بالتفرقة بينهما ، فإمتنعت المرأة وقالت : " كيف يكون هذا وأنا قد حملت منه ؟ " - فقال لها البابا البطريرك : " أن السيد المسيح يفصل بين الشرعيين " ( أي بينك وبينها ) ، ولم تكد المرأة تخرج من القلاية ، حتى نزل الجنين من بطنها ، فحصل خوف عظيم بسبب هذا الحادث ، وإنفصل الرجل عنها ، وعاد إلى إمرأته الأولي ، وصار هذا البابا محترماً مكرماً مهاباً من الجميع .
أزمة هدم كنيسة أبي سيفين بمصر القديمة
وفي مرة أخري أراد بعض المخالفين أن يهدموا كنيسة القديس مرقوريوس أبي سيفين بمصر القديمة ، ودخلوا الديوان ، وعينوا رئيسًا لهذا الأمر ، فبلغ الخبر مسامع البابا فإغتم كثيراً ، وقضي تلك الليلة ساهرًا متضرعًا إلى الله ، متشفعاً بالشهيد مرقوريوس كي يحبط مؤامرة الأشرار ، وينجي الكنيسة من الهدم ، فحدث والجند نيام أن سقط عليهم حائط ، فماتوا جميعًا ، وشاع هذا الخبر في المدينة كلها ، وبطلت تلك المؤامرة الرديئة ، فمجدوا الله تعالي.
أعماله خلال الخدمة
الأهتمام بتعمير
وترميم الكنائس والأديرة القديمة
إلى جانب فضائله التي كان يتمتع بها ، حيث كان أنه كان يفتقد الأرامل والأيتام ، وكان يزور المحبوسين في السجون ، وينظر إلى الرهبان المنقطعين بالأديرة ، ويعتني بأمرهم ويقضي ما يحتاجون إليه ، فكان أيضاً محباً للأديرة والكنائس - وخاصةً القديم منها - فقام بترميم ماتهدم منها بسبب قدم زمانها ، وقام أيضاً بتعمير الكثير منها .
رسامة مطران لكنيسة إثيوبيا
كانت الكنيسة قد نعمت بفترة من الهدوء والطمأنينة والسلام في بداية عهد باباوية البابا " متاؤس الرابع " ، حيث إستنارت الكنيسة بغبطته مدة رئاسته ، وقام برسامة مطرانين علي التعاقب لمملكة أثيوبيا ، بعد وفاة مطرانها يؤانس الثالث عشر ، الأول الأنبا خرستوذللو الثاني ، وأقام هذا المطران علي الكرسي من سنة 1665 م إلى سنة 1672 م - في مدة الملك واسيليدس ، والثاني الأنبا شنودة الأول ، وأقام علي الكرسي البطريركي من سنة 1672 إلى سنة 1694 م ، في أيام يوحنا الأول.
الملوك المعاصرون للخدمة
[ تابع عصر الدولة العثمانية وحكمها في مصر ]
كنا قد تناولنا في الحلقة الخاصة بتاريخ البابا " مرقس السادس " - الحديث عن بداية تاريخ حكم السلطان العثماني : " محمد الرابع " ، ولذلك ، فسوف نفرد لكم في هذا الجزء ـ أهم الأحداث التي وقعت خلال فترة حكم السلطان محمد الرابع والتي جاءت معاصرة لفترة جلوس البابا " متاؤس الرابع " على الكرسي الباباوي المرقسي .
وقائع غزو كريت وبلاد القوقاز
لم يكد يمضي سنتان على هذا النصر ، حتى كلف السلطان محمد الرابع قائده المظفر محمد باشا كوبريللي بإستكمال فتح جزيرة كريت التي فتحها السلطان إبراهيم الأول لكن ظلت قلعة "كانديه" وبعض القلاع بالجزيرة تقاوم العثمانيين ، بسبب المساعدات التي تتلقاها من بلاد أوروبا.
تحرك كوبريللي على رأس أسطول بحري إلى جزيرة كريت ، وضرب حصارًا حول كانديه في رمضان 1077 هـ / مارس 1667م ودام الحصار نحو سبعة أشهر صمدت خلالها القلعة ثم عاود الحصار مرة أخرى في 8 محرم 1079 هـ / 18 يونيو 1668م) لكنه طال هذه المرة، حتى تجاوز العامين ، وفي النهاية تنازلت البندقية عن كانديه بما فيها من مدافع وأسلحة للدولة العثمانية ، وأصبحت كريت تابعة للدولة العثمانية، وقضى كوبريللي وقتًا بعد الفتح في إصلاح القلاع والأسوار والأبنية، ثم غادر الجزيرة في 14 من ذي الحجة 1080 هـ / 5 مايو1670م بعد أن ظل بها ثلاث سنوات ونصف السنة.
مما يذكر أيضاً من أحداث هامة في أثناء فترة ولاية كوبريللي الصدارة العظمى ، دخلت بلاد القوقاز جنوبي روسيا في حماية الدولة العثمانية ، فلما حاولت بولونيا الاعتداء على بلاد القوقاز ، إستنجدت بالدولة العثمانية التي تحركت على الفور لنجدتها، وأجبرت ملك بولونيا على طلب الصلح.
الحملة العثمانية على روسيا
نشبت الحرب مع روسيا بسبب الصراع حول الأراضي الأوروبية الشرقية (في أوكرانيا حاليا). فغادر السلطان محمد الرابع وقرة مصطفى باشا الصدر الأعظم الذي تولى المنصب بعد وفاة كوبريللي في 24 رمضان 1087 هـ 30 أكتوبر 1676م إستانبول على رأس حملة هائلة هي الحملة الأولى لسلطان عثماني على روسيا في 8 ربيع الأول 1089 هـ / 30 مارس 1678م) ، حتى بلغت قلعة جهرين (في أوكرانيا حالياً) (بالأوكرانية Чигири́н) (بالروسية Чигири́н) ، فضربت حولها حصارًا، وكانت قلعة محُصنة ، وكان يدافع عنها جيش روسي ضخم يقدر بمائتي ألف جندياً ، لكن القلعة ، سقطت بعد إثنين وثلاثين يومًا ، وقُتل من الجيش الروسي 20 ألف جندياً ، ثم عاود السلطان محمد الرابع حملة ثانية على روسيا بعد عامين من حملته الأولى، لكنها انتهت بعقد معاهدة أدرنة بين الدولتين في 22 محرم 1092 هـ / 11 فبراير 1681م ، واتفق الطرفان على أن تقسم الأراضي الأوروبية الشرقية (أوكرانيا) ، بين العثمانيين والروس ، على أن يكون القسم الأكبر من البلاد تحت الحكم العثماني، وأن تستمر روسيا في تقديم الضريبة السنوية إلى بلاد القرم التابعة للعثمانيين، وأن تدفع المبالغ المتراكمة عليها خلال سنوات الحرب مرة واحدة.
وقائع حِصار النمسا الثاني وهزيمة العثمانيين
كانت الدول الأوربية قد تألبت على الدولة العثمانية ، وأفزعها ما بلغته من قوة ، فأخذت تتحرش بها ، وكانت النمسا تقف في مقدمة الدول المناوئة لها ، فإتخذت الدولة قرارها بتوجيه ضربة قوية للنمسا حتى تكف يدها عن التدخل في شئون المجر التي كانت خاضعة للدولة العثمانية.
وفي 19 رجب 1094 هـ / 14 يوليو 1683م وصل الجيش العثماني بقيادة قرة مصطفى باشا إلى فيينا ، وضرب عليها حصارًا شديدًا، استمر الحصار شهرين تهدمت في أثنائه أسوار المدينة المنيعة ، وإستشهد آلاف العثمانيين الطامعين في نيل شرف الفتح ، وقد إنزعج البابا بعد أن أدرك خطورة الموقف ، وتحركت أوروبا لنداءاته، وجاءت الإمدادات ، والمساعدات إلى فيينا ، وإستطاعت أن تعبر جسر "الدونة" إلى المدينة المحاصرة، وكان الإقدام على هذا العمل خطورة كبيرة لأن الجسر كان تحت سيطرة العثمانيين، لكن خان القرم المكلف بحماية الجسر لم ينسفه عند مرور هذه القوات وتركها تعبر في سلام إلى المدينة ، في واحدة من أكبر الخيانات التي شهدها التاريخ العثماني ، ولما نشب القتال انشغل الجيش بمحاولة اقتحام المدينة وهرب الوزير إبراهيم باشا بجزء كبير من الجناح الأيمن للجيش ، فإنهزم العثمانيون وفكوا حصارهم عن فيينا في 20 رمضان 1094 هـ / 12 سبتمبر 1683م ، ودقت كنائس فيينا أجراسها فرحة بهذا النصر، وجاوبتها كافة أجراس العالم المسيحي.
وقائع ثورة الجيش ضد السلطان وخلعه عن العرش
كان من نتائج الهزائم المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية في أواخر عهد محمد الرابع ، أن ثار الجيش في وجهه ، وقام بخلعه في 3 محرم 1099 هـ / 8 نوفمبر 1687م بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة ، وكانت الدولة في تاريخ خلعه قد فقدت كثيرًا من أراضيها للبنادقة والنمساويين ، وتولى بعده أخوه سليمان الثاني، ودخلت الدولة العثمانية في عصر توقف الفتوحات " الغزوات ".
وقد تلقى محمد الرابع أنباء هذه الهزيمة المدوية ، ولم يفعل شيءًا سوى أن بعث بمن قتل الصدر الأعظم الكفء قرة مصطفى باشا ، تحت تأثير بعض الوشاة والكارهين للصدر الأعظم ، وذلك في 6 محرم 1095 هـ / 25 ديسمبر 1683م ، وبدأ يسعى لاسترداد بعض ما فقدته الدولة في المجر ، لكنه لم ينجح ، وتلقى صدره الأعظم سليمان باشا هزيمة منكرة في سهل موهاكس أمام التحالف المقدس في 3 شوال 1098 هـ / 12 أغسطس 1687م.
النياحة
لما دنا وقت نياحته ، مضي إلى المقبرة التي تحوي أجساد البطاركة بمصر وقال لها : "إنفتحي وإقبليني لأسكن بين أخوتي الأبرار" !.
ولما عاد إلى مكانه مرض مرض الموت ، فأرسل إلى الأساقفة والكهنة ، وأحضرهم وأوصاهم علي رعية المسيح ، كما أحضر الرئيسة من الدير ، وأعطاها كل ما عنده وأوصاها أن تسلمه لمن يأتي بعده لأنه وقف القيامة " .
وكانت نياحة البابا " متاؤس الرابع " بعد أن قضى على الكرسي المرقسي مدة أربع عشرة سنة وثمانية شهور وتسعة أيام ، وكانت نياحته في اليوم السادس عشر من شهر مسرى سنة 1391ش - الموافق لعام 1675م ، ودفن في مقبرة البطاركة بكنيسة القديس مرقوريوس بمصر القديمة ، وقد ظل الكرسي البابا المرقسي شاغراً بعد نياحته لمدة سبعة أشهر .
إرسال تعليق