مشاهير الشخصيات المعاصرة للبابا شنودة الثالث
القديس القمص بيشوي كامل
المولد والنشأة ومراحل التعلم
الأولى
كان من المعتاد أن يذهب الولد إلى
المدرسة في السابعة من عمره. وفي هذا السن التحق سامي بالمدرسة الإبتدائية ، حيث قضى
أربع سنوات، ومنها إلى المرحلة الثانوية لخمس سنوات - وقد إختار شعبة العلوم.
ثم دخل
كلية العلوم بجامعة الإسكندرية حيث نال البكالوريوس بتفوق في يونيو سنة ١٩٥١ومع صغر
سنه فقد عيّنته وزارة التربية والتعليم مدرسًا للعلوم في مدرسة الرمل الثانوية للبنين.
على أن رغبته في التعلم جعلته يلتحق بقسم التربية وعلم النفس فحاز فيها الماجستير سنة
١٩٥٢ – وكان الأول.
وحين كان في السابعة عشر من عمره،
وهو مازال في الجامعة، بدأ الخدمة في التربية الكنسية الملحقة بكنيسة السيدة العذراء
بمحرم بك. ولكنه كان ضمن الذين يُقال عنهم: ومتى كانت النفوس كبارًا تعبت في مرامها
الأجسام، لأنه استمر في الدراسة حتى بعد ما اشتغل. فالتحق بالقسم العالي لدراسة التربية
وعلم النفس مستكملاً دراسته الأولى فيها فنال الدبلوم ، وكالمعتاد كان الأول بين الخريجين.
وظل عطشانًا إلى المعرفة فحصل على الليسانس في الفلسفة من كلية الآداب بالإسكندرية
سنة ١٩٥٤.
على أن كل هذه الدراسات لم تشبع
تطلعاته الداخلية للروحيات. فدخل الكلية الإكليريكية ودأب على الدراسة إلى حد أنه تخرج
منها سنة ١٩٥٦ بتفوق.
وفي السنة عينها ، إنتُخب الأمين العام لجماعة خدام الكنيسة.
وفي بداية العام الدراسي لسنة
١٩٥٧ م عُين مدرسًا مساعدًا بالمعهد العالي للتربية في الإسكندرية – وهو معهد تابع لوزراة
التربية والتعليم ، وهكذا استمر ينمو في النعمة والحكمة والقامة الروحية يومًا بعد يوم.
القديس القمص بيشوي كامل
بداية الحياة العملية
ولقد إشتغل سامي كامل في الحكومة
وفي الكنيسة جنبًا إلى جنب: فكان في الأولى مهنته ، وفي الثانية هوايته ، فأدى العملية
بالهمة عينها والغيرة ذاتها وبالإخلاص المتماثل.
ثم حدث في مساء الأربعاء ١٨ نوفمبر
سنة ١٩٥٩ أنه استصحب فصله لمدارس التربية الكنسية إلى الدار الباباوية لينالوا بركة
البابا الكبير. وما أن قبَّل يديه حتى فوجيء بأنه سيُرسم كاهنًا بعد أربعة أيام ، وحين قصد إلى بيت زميليه فايز وجورج باسيلي ليطلب من والديهما يد أختهما أنجيل فرحا
به فرحًا عظيمًا وقالا لأبويهما إن سامي كامل ذو نقاء ملائكي. وأقيمت الشعائر القدسية
التي رفعته إلى القس بيشوي صباح الأربعاء ٢٢ هاتور، ٢ ديسمبر سنة ١٩٥٩ بدلاً من يوم
الأحد ٢٩ نوفمبر الذي كان محددًا من قبل ذلك لأنه حتى ذلك التاريخ لم يكن قد تم بعد
تجهيز المذبح الذي سيُرشم عليه ، وعملاً بتقاليد الكنيسة القبطية قصد إلى دير السيدة
العذراء للسريان حيث قضى أربعين يومًا.
السمات الروحية
وقبل مسايرة أبينا بيشوي في كرامته
الجديدة نبني نفوسنا بالتأمل في شخصيته. وفي تأملنا هذا نجد أن الآب السماوي قد أعده
إعدادًا تامًا شاملاً. فقد منحه التفوق في العلوم والآداب وفي التربية وعلم النفس وفي
الفلسفة. وفوق هذا كله هيأ له الفرصة لخدمة الكنيسة وللدراسة الإكليريكية. على أن الأهم
من هذا كله ملأه محبة للملكوت؛ وميّزه بقلب نقي مستقيم ملتهباً بمحبة عارمة للرب ولكنيسته ، وفي الوقت عينه ، كان باسل جسور ، عيناه تلمعان ببريق جذاب ، وتتزين شفتاه بابتسامة
رقيقة لا تفارقهما إطلاقًا. وكان في مقدوره أن يستشف احتياجات الناس قبل أن يتلفظوا
بها فيسارع إلى خدمتهم قبل أن يطلبوها ، كانت إمكانياته الروحية تتخطى الحدود والفضاء
وتتراكض إلى ما وراء الجنس واللون ، كانت الأرض وملؤها في نظره للرب ، وكانت الناس والمخلوقات
كلها محبوبة منه - ألم يرها الخالق - حين أبدعها - أنها حسنة ؟.
بداية الخدمة الكهنوتية
وحين نال الكرامة الكهنوتية تقبلها
برقة واتضاع. فتعريفه للكاهن أنه شهيد محبة في كنيسته: شهيد يمنح حياته لخدمة شعبه،
يتعب ويعرق يجاهد ويتألم ويسير مع كل واحد الميل الثاني برضى وطاعة وتنفيذًا لقول رب
المجد "من سخرك ميلاً فاذهب معه اثنين" وفسر هذه الآية بقوله: "إن الميل
الأول هو اضطرار بل هو سخرة. أما الثاني فمعطي محبة وفرحًا وخضوعًا للسيد المسيح".
وبهذه المزايا وجد كل من تعامل
معه أنه تلميذ مخلص وفي للمسيح؛ وأنه راعٍ يأخذ باستمرار من الله ليعطي للناس.
فترة الجهاد في الخدمة وأهم أعماله
وكان عمله الأول هو أن يحوِّل السقيفة
التي تسلَّمها إلى مبنى يليق بأن يكون بيتًا لله. وهذا عمل شاق من غير شك ، ولكن إيمان
أبينا بيشوي بلغ من الرسوخ ما جعله يرفض أن يطلب أي مال. بل لقد رفض أن يجعل أي إنسان
يمر بطبق على المصلين.
واكتفى بأن يضع في زوايا السقيفة
صناديق صغيرة من الخشب مؤكدًا أن فيض الله سيغمرهم! ، ويكفي القول للساخرين والمتشككين
أن المال الذي جمعه بهذه الكيفية الصامتة بنى به كنيسته - ثم بنى به ٦ كنائس أخرى هي :
١. كنيسة باسم الشهيد مارجرجس في
الحضرة.
٢. كنيسة تحمل اسم القديس الأثيوبي
تكلا هيمانوت بالإبراهيمية.
٣. كنيسة باسم رئيس جند السمائيين
الملاك ميخائيل بمصطفى كامل.
٤. كنيسة باسم البابا الشهيد البابا
بطرس خاتم الشهداء بسيدي بشر.
٥. كنيسة تحمل اسمّي الكوكبين المضيئين
الأنبا أنطونيوس والأنبا بيشوي في اللبان.
٦. كنيسة بإسم السيدة العذراء والأنبا
كيرلس عمود الدين في كليوباترا الحمامات.
وبالإضافة فقد إفتتح حضانة لأطفال
الأمهات المشتغلات في قاعة ملحقة بكنيسة مارجرجس يوم رأس السنة القبطية توت سنة
١٦٨٨ش (١١ سبتمبر سنة ١٩٧٢) ولم تمضِ سنة حتى أصبح لكل كنيسة في الإسكندرية حضانة على
نمطه ثم لم تلبث الفكرة أن عمت كنائس مصر كلها.
القديس القمص بيشوي كامل
التمسك بتعاليم الكتاب المقدس وقوة الصلاة
وكان أبونا بيشوي متيقنًا بأن الخدمة
الحقيقية هي عمل "الراعي الأعظم" الذي هو وحده يقود شعبه من خلال الكهنة.
وفسّر هذا اليقين بأن كلمة كاهن باللغة اليونانية هي "إبريسفيتيروس" ومعناها
"شفيع". ولذلك كان العمل الأساسي للكاهن هو أن يصلي عن شعبه لأن الصلاة هي
القوة الدافعة لكل الأنشطة الكهنوتية . ويكشف القداس الإلهي عن هذا السر لأن الكاهن
يصلي عن نفسه وعن شعبه ، يصلي عن المرضى والمسافرين ، وعن أولئك "الذين سبقوا فرقدوا" ؛ إنه
يصلي عن رئيس الدولة كما يصلي عن بابا الكنيسة ، بل إنه يصلي عن النيل والنباتات
" وكل شجرة مثمرة في العالم بأسره " إذن فالدرس الأول المُلقى على الكاهن هو
أن يتعلم أن يصلي. ولقد بلغت الرغبة بأبينا بيشوي في تعليم الصلاة إلى أن أصدر:
١ - رسالة عن صلاة للقديس نيلوس
السينائي.
٢ - كتاب عن "صلاة يسوع"،
الصلوات التي توارثتها الأجيال عن الآباء والمعروفة " بصلوات الأجبية " أو
صلوات السبع ساعات المرتبة تبعًا للساعات الكنسية.
ولأنه عاش هذه التعاليم بالفعل
يومًا بعد يوم فقد إمتلأت حياته بالبركة : يعمل الله فيه وبه وينجح أعماله.
ومن أرق القصص الدالة على رجائه
الثابت قصة امرأة كان زوجها يكره الكنيسة كراهية عنيفة ، فكان إذا ما وجد في بيته صورة
السيد المسيح أو لأحد القديسين يمزقها إربًا إربًا ، كذلك أصرّ على عدم مقابلة أي كاهن ، وكلما روت الزوجة لأبينا بيشوي أعمال زوجها وأقواله يجيبها باستمرار الإجابة عينها:
"صلّي من أجله". ومرت سنوات ، وبدا كأن قلب الزوج لا يمكن اختراقه ولكن أبونا
بيشوي لم ييأس. ومرض الزوج ، وفي شدة وجعه طلب إلى زوجته أن تأتي له بصورة المسيح المصلوب ، وإحتضن الصورة بحرارة وإنهالت دموعه في ندم وتوبة.
وثمة قصة توضح أن تأثير أبونا بيشوي
تخطّى حياته الأرضية. فقد جاهد ليكسب شابًا سائرًا في طريق الضلال. ولكن جهاده ضاع
سدى. وحين كان رجل الله راقدًا رقدته الأخيرة داخل نعشه عند حجاب الهيكل تقدّم هذا
الشاب وركع إلى جانبه وقبّل يده، وبدموع غزيرة أعلن توبته أمام الجمع الحاشد.
إلتهاب القلب بمحبة الكنيسة
وكان أبونا بيشوي مشتعلاً بمحبة
كنيسته: أحبها لكونها عروس السيد المسيح الذي تيقَّن من عضويته فيه من خلالها، إنها
حظيرة قطيع السيد المسيح. وفاض قلب أبينا بيشوي نشوةً بقداساتها وألحانها وصلواتها ، وتهلل بصحبة قديسيها وشهدائها ورهبانها ، بل لقد بلغ به التهلل بصحبتهم جدًا جعله يضع
أيقونة القديس / القديسة يوم تذكاره على حامل منتصب وسط الشمامسة يوم تذكاره / تذكارها.
وكلما أمكن صحب شعبه لزيارة الدير أو القلاية أو المقصورة التي عاشوا فيها أو رقدوا
فيها. كذلك اعتز بتاريخ كنيسته المحبوبة ، فكان يشجّع كل من يجد فيه ميلاً للكتابة على
تدوين هذا التاريخ. ولم يكن تشجيعه باللسان بل كان بالحري بالعمل. فمثلاً كان يستصحب
المؤلفة إلى الرقيب (حين كانت الرقابة مفروضة على كل المطبوعات)، وبعد أخذ موافقته
يتسلَّم المخطوط فلا تراه بعد ذلك إلا كتابًا متداولاً بين الأيدي إذ حتى مراجعة البروفات
كان يضعها على زوجته الفُضلى. وكلما ظهر جزء كان حماسه به ملتهبًا يدفع بكل معارفه
إلى شرائه. وسار على الخطة عينها حتى في الكتاب الذي وضعته المؤلفة عن سيرة أبيها.
ولقد نبعت كل مواعظه من هذه المحبة
المشتعلة ، فأكد قوة الروح القدس المنسابة إلى داخلنا من خلال سرَّي المعمودية والميرون
المقدسين. وواظب على مطالبة شعبة بتناول سر الإفخارستيا العظيم لكي يصلوا إلى القداسة
المسيحية. وإذا ما تحدث عن القديس تكلم عن صداقتهم المستمرة مع الله بصورة كانت تجعل
سامعيه يتيقنون بأنه في زمرتهم.
ولقد عني عناية خاصة بتعاليم الكنيسة
وتقاليدها. فمثلاً وضع جرن المعمودية بالقرب من المدخل الشمالي الغربي لتكون عن شمال
المصلين أثناء الصلوات - أليست المعمودية هي الميلاد الثاني الذي حوَّل به السيد المسيح
الإنسان القديم إلى إنسان جديد، وبذلك حوَّله من الشمال إلى اليمين؟ وحتى وصيته الأخيرة
لإخوته الكهنة كانت رجاؤه إليهم بأن يحافظوا بكل دقة على التقاليد الحيَّة التي تسلمناها
جيلاً بعد جيل، وذلك لكي يعيش أولادهم بروح الكنيسة ويبتهجوا بعضويّتهم فيها.
ومرة وهو في لوس أنجيلوس وزّع صورة
البابا كيرلس السادس على جميع من زارهم. وحين سُئل لماذا لا يفعل هذا في مصر أجاب:
"في بلادنا يعيش البابا بيننا فهو قريب إلينا وبالتالي ليس غريبًا عنا ، ولكن الجيل
الصاعد الذي ينمو في الولايات المتحدة لا يعرفه بل قد لا يسمع به فمن واجبنا أن نؤكد
أبوّة قداسته لنا كجزء من التقليد القبطي".
كذلك أحيا التقليد القديم الخاص
بالسهر في الكنيسة ليلة رأس السنة، سنة الشهداء والسنة المسيحية العامة ، وعملاً بنموذجه
أصبحت كل الكنائس تحيي سهرات رأس السنة في داخلها.
القديس القمص بيشوي كامل
خدمة التكريز
ولقد وصفه أحد زملائه الكهنة بقوله
إنه "كالنسر في انقضاضه على فريسته". فكان تعليمه وعظاته، بل وحياته كلها
مغناطيسًا يجتذب القلوب. فهو كان يرى السيد المسيح في كل شخص - حتى في الضالين وهذه
الرؤيا أشعلته اشتعالاً شهوةً منه في اكتسابهم لرب المجد فاديهم الحبيب المحب. فكان
يذهب وراءهم بلا هوادة. ومع أنه اكتسب العدد الوفير إلا أن بعض الأمثلة تكفي: حينما
كان يخدم في لوس أنجيلوس لحظ شابًا يحضر القداس ولكنه يسارع إلى الخروج حالما تنتهي
الصلوات. وبعد ملاحظته عدة مرات قرر أن "يقفشه" ، ففي الأحد التالي سارع نحو
باب الكنيسة وسلَّم عليه وقال له: "أرجوك أن تنتظرني".
ولما خرج الجميع التفت
إلى الشاب فوجده يبكي. وخلال عبراته سأل إن كان يتذكّره.ولم ينتظر الإجابة بل قال:"أنا
فلان الذي سلب منك بعض المال من عدة سنوات في كنيسة مارجرجس" واحتضنه أبونا في
حنان وقال: "انسَ هذا - فأنت ابني" ، ولا حاجة إلى القول بأن هذا الشاب صار"إنسانًا
جديدًا".
القديس القمص بيشوي كامل
وثمة قصة أخرى تتلخص في أن جاءه
ذات صباح رجل في غاية الفزع وهو يقول: "الحقني يا أبونا. فقد خطف فلان (وهو ضابط
شرطة) ابنتي وحملها رجاله إلى بيته". وقفز أبونا إلى سيارته وذهب لفوره إلى بيت
الضابط المذكور، وحين فتحوا له الباب دخل مسرعًا من غرفة إلى غرفة حتى وجد الشابة.
فأمسك بيدها وأخذها وخرج. وأصيب أهل البيت بذهول أمام سرعة أبينا حتى ، لكنهم صاروا
تماثيل ، فلم يعترضه أحدهم! وأوصل الشابة إلى أبيها. وغني عن القول أن ثار عدو الخير
عليه وهيَّج بعض ضعاف النفوس ليعترضوا طريقه وتصادف مرور أحد زملائه الكهنة يومًا فرآه
وهم يعترضون سيارته ويضيقون عليه من كل جانب بسيارتهم بالقرب من منزله لكنه عبر كالسهم
في وسطهم "والفخ انكسر ونحن نجونا". فأجمع كهنة الإسكندرية على الشكوى إلى
المحافظ ولكنه رفض في إصرار قائلاً: "نحن آباء أفلا يجب أن نكون على إستعداد لأن
نقبل جعالة دعوتنا العليا؟".
والمثل الثالث خاص بإنسان لم يولد
داخل الإيمان المسيحي. وحين عمل مغناطيس أبينا فيه امتلأ قلبه حرارة إلى حد أنه رغب
في الرهبنة. فصحبه أبونا إلى أحد أديرة شيهيت. وبعد عدة أسابيع أراد أن يطمئن عليه.
وبينما هو يقود سيارته في المنطقة البعيدة عن الطريق العام إذا بشيخ رث الثياب يستوقفه
ويطلب إليه أن يوصله إلى منطقة معينة. وأركبه أبونا بابتسامته المعهودة. وقبل أن يصل
النقطة المطلوبة قال الشيخ: "يكفي أنزلني هنا. فالمكان قريب وأنا أخرجتك عن طريقك"،
ولكن أبونا صمم على الاستمرار في المسير وفتح الشيخ باب السيارة لينزل فأوقفها أبونا
بسرعة ومدّ يده ليمسك بيد الشيخ وإذ بها مثقوبة بالمسمار وإذا بالشخص يختفي وفي اليوم
التالي جاءه شقيقا الرجل الذي ترهبن وأخبراه بأنهما تربصا له ليقتلاه ، ولكنهما تراجعا
إذ وجدا شخصًا جالسًا إلى جانبه.
مراحل هامة في حياة القمص بيشوي كامل
وهنا يجدر التمعن في مرحلتين هامتين:
كان أبونا بيشوي قد تسلّم سقيفة لم يلبث أن حوّلها إلى كنيسة ضخمة. وكان قد بدأ بإقامة
قلعة فسيحة بمستوى الأرض اتخذ من ناحيتها الشرقية هيكلاً إلى أن تم بناء الكنيسة في
أعلاها. وفي ۱٧ نوفمبر سنة ۱٩٦٨ أقيمت شعائر تكريسها إذ قد
انتدب قداسة البابا كيرلس السادس نيافة الأنبا مكسيموس مطران القليوبية لتأدية شعائر
التكريس.
ومن الشيِّق أن نعرف أن الفنان الذي رسم أيقونة السيد المسيح الصاعد إلى السموات
على الجدار الشرقي للهيكل فنان مسلم، وهو بعينه الذي رسم في كل ركن من أركان قبة الكنيسة
الأربعة بشيرًا من البشيرين وإلى جانبه الحيوان غير المتجسد الذي يرمز إليه ـ وهذا دليل
على مدى الأثر الذي كان لأبينا بيشوي ـ وقد أخذ هذه الصور عن الأيقونات الملونة للفنان
مايكل أنجلو بطريقة التكبير بالبروجكتور .
وفي يوم ٧ هاتور سنة ۱٦٩٢ (۱٧/۱۱/٧٥) أقيم قداس إلهي تذكارًا لبناء
أول كنيسة على اسم مارجرجس في اللد مسقط رأسه، وكان اليوم عينه هو الذي تكرَّست فيه
كنيسته بسبورتنج. ولهذين التذكارين المفرحين دعا أبونا بيشوي وإخوته الكهنة وأعضاء
لجنة الكنيسة نيافة الأنبا مكسيموس ليؤدي الشعائر القدسية. وفي الصباح باكرًا قام حليم
زخاري - فراش الكنيسة - بتنظيفها وترتيبها ثم نزل إلى القاعة التي تحتها لينظفها أيضًا
توقعًا للزحام. فوجد قرب مدخلها بنكًا مائلاً من ناحية ومربوطًا بدوبارة إلى البنك
الذي إلى جانبه. فصرخ: "قنبلة! قنبلة!" وسارع إليه شماس الهيكل نظمي وأخذ
يناقشه في لا معقولية ما يصرخ به، إذ كيف يمكن وجود قنبلة في هذه القاعة؟ ولكن حليم
كان متأكدًا مما يقوله مصرًّا عليه إلاَّ أن الشماس لم يجرؤ على الاقتراب من البنك.
فقد كان حليم جنديًا ممن قاتلوا في حرب سنة ١٩٧٣ ورأى مثل هذه القنابل فلما انتهت الحرب
قصد إلى أبينا يطلب عملاً فعيَّنه فراشًا قبل هذا اليوم بثلاثة شهور. وكانت القنبلة
في وضع لا يحتاج إلى غير لمسة لتنفجر!
وبينما كان الشماس نظمي لا يزال
في مجادلته مع حليم إذ بضابط جيش من المتخصصين في المتفجرات يدخل ليحضر الصلوات وما
أن رأى القنبلة حتى أكَّد أقوال حليم، كما أكَّد أنها من النوع الروسي شديد الانفجار
وفي وضع التأهب. فذهب الضابط وهمس في أذن أبينا بيشوي بالواقع ، ونزل الكاهن الرصين
بهدوئه المعتاد ورأى القنبلة. فأغلق باب القاعة بالمفتاح ووضعه في جيبه ، ثم تحدث تليفونيًا
مع الوكيل العام للبابوية وبعدها صعد لاستكمال الصلوات. وما أن انتهت حتى رجا من الشعب
أن ينصرف لفوره.
ووصل رجال الأمن والنيابة العامة
إلى الكنيسة ومعهم أخصائي مدرّب في المتفجرات. ولقد سجّل هذا الأخصائي في المحضر الخاص
بالتحقيق أن القنبلة روسية الصنع ومن النوع الشديد الانفجار، وتغطي دائرة نصف قطرها
عشرة أمتار - أي أنها تغطي القاعة بأكملها! كذلك أكَّد هذا الأخصائي أن الذي وضع القنبلة
ممن يعرفون تمامًا كيفية استعمالها، وأنه وضعها بغاية الدقة لتنفجر على الفور! ولكن
- ألم يكن مارجرجس من رجال الجيش الذين تركوا خدمة الملك الأرضي ليخدموا الملك السماوي؟
وفوق هذا، فالساهر على كنيسته لا ينعس ولا ينام ، ولقد قال - له المجد في أكثر من مناسبة
"عيني عليك من أول السنة إلى آخرها" ، فكيف يمكن لإنسان أن يهدم ما يبنيه الله؟
وهو له المجد قد أثبت مدى رعايته الساهرة.
القديس القمص بيشوي كامل ويبدو عليه علامات الإرهاق والإعياء الشديد في الفترة الأخيرة من حياته على الأرض
وفي الأسبوع عينه دخل رجل إلى كنيسة
مارجرجس أثناء صلاة عشية. وكان يحمل شمعة كبيرة الحجم. وبينما كان أبونا بيشوي مارًّا
بين الشعب يبخِّره تقدّم إليه هذا الرجل وأخبره بأنه يريده أن يوقدها له. أجابه رجل
الله بهدوئه المعتاد: "ضعها مع الشموع الموضوعة قرب الباب وحالما أنتهي من الصلاة
أوقدها لك". فوضعها الرجل وخرج. وبعد قليل دخل شرطي إلى الكنيسة وسأل أبونا
"أين الشمعة التي جيء بها منذ قليل؟" فأشار إليها أبونا واتضح أنها غمد على
هيئة شمعة محشوًّا بالمفرقعات. وكان اكتشاف هذا الواقع أيضًا من رعاية الساهر الذي
لا ينام. لأن الرجل الذي أحضر الشمعة، حين خرج من الكنيسة، دهمه تاكسي فسقط على رأسه
فاقد الوعي وحُمل إلى أقرب مستشفى. وفي هذيانه أثناء غيبوبته اعترف بالأذى الذي كان
ينتويه لأبينا بيشوي.
بناء كنيسة السيدة العذراء
وفي تلك السنة عينها قدَّم الفادي
الحبيب برهانًا جديدًا على مدى فاعلية وعده القائل: "ها أنا معكم إلى انقضاء الدهر".
ويتلخص البرهان فيما يلي: كان هناك قطعة فسيحة من الأرض تقع قرب خط الترام عند محطة
كليوباترا الحمامات. فرأى أبونا أن يبني عليها كنيسة وقد تم بالفعل بناؤها مؤقتًا لحين
استصدار قرار جمهوري وهذا أيضًا قد حصل عليه بعمل ربنا العجيب وهكذا كلل الرب هذا العمل
المقدس بالنجاح خصوصًا أن وافق أول قداس في هذا المكان الطاهر يوم الجمعة ٢١ طوبة أي
٨ فبراير سنة ١٩٧٦ وهو يوم تذكار السيدة العذراء ولكن القطعة كانت ملاصقة لمبنى الاتحاد
الاشتراكي الوطني. فاستثار عدو الخير المقيمين في المنطقة ضد أبينا بيشوي مما جعلهم
يشتكونه للشرطة. على أن رجل الله لم يتراجع بل حدّد يومًا لبناء السور. وقضى الليلة
السابقة لهذا اليوم في الصلاة حتى مطلع الفجر. وما أن بزغ أول شعاع للشمس حتى فتح نافذته
ويا للعجب فقد دخلت إلى الحجرة عصفورة جميلة غريبة الشكل وأخذت تنط في الحجرة وتغرِّد
وترفرف بجناحيها، بل إنها وقفت على كتف أبينا في ثقة واطمئنان. وراقبها فرحًا مستبشرًا
وللوقت ارتدى ملابسه وخرج إلى الأرض المرغوب في إقامة الكنيسة عليها. وعندما همَّ البنَّاء
لكي يبني استوقفه رجل الشرطة. وهناك خلع أبونا لباسه الخارجي الكهنوتي ولفّ أكمامه
إلى ما فوق الكوع وبدأ يبني بيديه. وسرى حماسه إلى كل الذين رافقوه فاشتركوا معه في
العمل. ولقد بلغ اشتغالهم مبلغًا مكّنهم من أن يبنوا ست عشرة ألف طوبة في ذلك اليوم
وكانوا على يقين من أنهم لا يبنون وحدهم بل لقد اشتركت في العمل معهم أيدي ملائكية.
وهنا ترنّ في آذاننا كلمة قالها مصرولوجي أمريكي اسمه هنري جيمز برستد وهي: "إن
ما يبدو أسطوريًا في البلاد الأخرى هو طبيعي في مصر" .
القمص بيشوي كامل
الإختبار السماوي العجيب والنياحة
حينما انتقل أبونا بيشوي كانت المؤلفة
في لندن. وفي صباح الأربعاء (۱۲ برمهات) كانت جالسة في المطبخ بالقرب
من جداره الزجاجي المطلّ على الحديقة التي كانت مغطاة بالثلج. وفي لحظةٍ ما رفعت عينيها
من الكتابة فرأت عصفورًا يجرّ رجليه جرًا فوق ممر الحديقة ثم يختفي خلف جذع شجرة كثيف
وبعدها عاودت الكتابة وفي الظهر حين عاد أمين (ابن أخيها سامي) من المدرسة قال لها:
"يا حرام! فيه عصفور ميت إلى جانب جذع الشجرة الملاصقة للجراج". وتلقَّت
الخبر دون أى تفكير.
وقد عادت في اليوم التالي إلى مقعدها
في المطبخ. ولما عاد أمين من المدرسة أبدى الملحوظة عينها. ففي اليوم الثالث، وحالما
ذهب أمين الى المدرسة خرجت المؤلفة فوجدت العصفور في مكانه. فأحضرت علبة كرتون ووضعت
داخلها قليلاً من العشب الناعم ثم وضعت العصفور فوقه وغطَّت العلبة وحفرت نقرة صغيرة
إلى جانب جذع الشجرة ودفنتها فيها.
وفي يوم الأحد حينما كان يذكر الخادم
الكاهن الخديم المنتقلين كانت آخر جملة قالها: "نيِّح يارب نفس عبدك القمص بيشوي
كامل". فلما انتهت الصلوات القدسية سألت أبونا: "متى حدث هذا؟" أجابها:
"لقد تنيَّح صباح الأربعاء، وظل جثمانه الطاهر داخل الكنيسة في نعشه المكشوف،
ثم صلى عليه قداسة البابا شنودة الثالث بعد ظهر الخميس ودفنوه عقب انتهائهم من الصلاة".
وفي رمشة عين رأت العصفور الذي مات في الحديقة! وقد يسخر البعض أو يظنون أن هذه مجرد
صدفة.
ولكن آباءنا علمونا أنه ليست هناك صدفة لأولاد الله. ولقد كان أبونا بيشوي أب
اعترافها حتى حين كانت في لندن. فربطت المحبة الوثيقة بينهما. ومما لاشك فيه أنه –
لهذا عينه – أراد أن يعطيها بنفسه خبر إنتقاله.
وجدير بالذكر أن مقصورة خاصة تحت
المذبح الشمالي لكنيسة مارجرجس بسبورتنج قد أقيمت لوضع رفات أبينا بيشوي فيها. وهذه
المقصورة قد أصبحت مزارًا يزوره المئات من الناس بإستمرار. وإلى الآن يخدم أبونا بيشوي
شعبه: بتحذيرهم عند الخطأ، وبنصحهم عند التردد ، وبإرشادهم حين يكونون في مفترق الطرق.
القمص بيشوي كامل ما بعد النياحة
بعد سنة من نياحته ـ أقيمت له صلوات
تذكارية في كنيسة مارجرجس رأسها قداسة البابا شنودة الثالث أيضًا ، ثم ألقى كلمة نقتطف
منها ما يأتي: "إنه ليفرحني يا أحبائي أن أشترك معكم في التكريم اللائق بخادم
أمين كانت حياته رائحة ذكية. بخورًا. لحنًا متناغمًا من مزمور... لم يعد شخصًا بل بالحري
أصبح رمزًا: رمزًا لخدمة روحية قوية، جهدًا بنّاءً، درسًا لجميع الذين يريدون أن يخدموا
في محبة وولاء... وله مزاره كتذكار حي لمحبته تجاوبت معها محبة شعبه... لقد أعدَّ الله
موسى حين شب "مهذبًا بكل حكمة المصريين"، كذلك أعد الله شاول الطرسوسي –
بولس الرسول – حين جلس عند قدميّ غمالائيل. وعلى هذا النمط أعد الله أبونا بيشوي بالتربية
المدنية والدينية معًا. وفوق هذا كله منحه قلبًا مليئًا بالوداعة والتواضع والشجاعة
وبالتقدير الشامل للآخرين ومعاملتهم بغاية الرقة. لقد حباه بإمكانية من الحب تتخطى
حدود الزمان والمكان والشخصيات... وكان يرى في الكاهن شهيدًا يخدم شعبه بروح الاستشهاد
– أي مقدمًا ذاته بل حياته في سبيلهم متقبلاً التعب والألم والاضطهاد من أجلهم – وعاش
بهذا المبدأ. لذلك أصبح "أبًا" لعدد من الكهنة، أبًا لخدمة تمتد إلى ما وراء
الحدود... فحينما دخل لوس أنجيلوس أدخل معه روحًا جديدةً – لا بل بالحري أدخل معه ملكوت
السموات. لقد نفخ في الناس روح الأرثوذكسية لأنه كان يؤمن تمامًا بروحانيتها العميقة...
وامتد خارجًا فأسس كنيسة سان فرانسيسكو بكاليفورنيا، وأخرى بدنفر بكلورادو في بورتلاند
ورابعة في سياتل وخامسة في هيوستن بتكساس وسادسة في جيرسي ولكل الكنائس في أنحاء الولايات
المتحدة كان يرسل مطبوعاته باستمرار... ولم يدعه عمله للجماعة ينسى عمله للفرد: فسعى
وراء كل واحد شخصيًا. لقد كان عجيبًا حقًا في سعيه وراء الفرد. وكل مشكلة قدمت له من
شخص حلّها بحنان ومحبة... وكان أبونا بيشوي عجيبًا أيضًا في محبته للقديسين: فيسافر
إلى دير مارمينا ليسهر مع القديس عشية تذكاره. ويذهب إلى أي دير يوم تذكار مؤسسه. وهؤلاء
النساك آباء الصحراء لم يكونوا وحدهم أصحابه: فكان يذهب إلى كنيسة السيدة العذراء بالعزب
بالفيوم ليسهر ، ثم ليصلي القداس الإلهي في تذكار الأسقف الأنبا إبرآم. وإني لأتعجب من
الترحيب الذي لاقاه به القديسون حين انضم إليهم في الفردوس!... لقد انسابت محبة الكنيسة
في شرايينه... ولقد خدم كأب روحي. وخدم المذبح حاملاً في داخله شعبه إلى حضن الآب السماوي...
كان حنانه يتسع إلى محبة مبغضيه. كان يحب الضال والمشاغب. وحين كان يخدم في كنيسة مارجرجس
والأنبا شنودة التي اشتراها بجيرسي سيتي نجح في تعميد يهودية متعصبة. وحينما كان بالمستشفى
في لندن اكتسب ممرضته الملحدة إلى السيد المسيح.
مزار القديس القمص بيشوي كامل
إرسال تعليق