مراد الرابع
التحديات الداخلية والخارجية للدولة العثمانية
لقد تولى السلطان مراد الرابع عرش الدولة العثمانية ، في فترة كانت الأخطار فيها تحدق بالدولة العثمانية من الداخل و الخارج ؛ فقد بويع بالسلطنة بعد عزل عمه السلطان مصطفى الأول في (15 من ذي القعدة 1032 هـ - 11 من سبتمبر 1623م)، و كانت فرق الإنكشارية تعبث بمصالح البلاد العليا ، وتعيث في الأرض فسادًا ، حتى إنهم قتلوا السلطان "عثمان الثاني" (1027 ـ 1031 هـ - 1618 - 1622م) و كان سلطانًا - على الرغم من صغر سنه - يحاول أن ينهض بالدولة ، و يبث فيها روح الإصلاح ، و يبعث الحياة في مؤسسات الدولة التي شاخت وهرمت ، لكن الإنكشارية لم تمكنه من ذلك ، وإعترضت طريقه ، و تدخلت فيما لا يعنيها ، ولم يجد السلطان مفرًا من تقليص نفوذهم ، و قمع تمردهم ، ولو كان ذلك بتصفية وجودهم العسكري ، لكنهم كانوا أسبق منه ، فأشعلوا ثورة في عاصمة الخلافة في (رجب 1031 هـ - مايو 1622م) ، عُرفت في التاريخ بـ "الهائلة العثمانية" ، راح ضحيتها السلطان الشاب الذي لم يتجاوز عمره الثامنة عشرة .
بعد مقتل السلطان ، وتولى السلطان مصطفى الأول ، وكان لا يملك من أمره شيئاً ، و صارت مقاليد البلاد في يد الإنكشارية ، وعمّت أرجاء الدولة الفوضى والإضطرابات ، و ظلت ثمانية عشر شهرًا دون أن تجد يدًا حازمة تعيد للدولة أمنها و سلامتها .
وإستمرارًا لهذا العبث ، قام الإنكشارية بعزل السلطان مصطفى الأول وولوا مكانه ابن أخيه السلطان "مراد الرابع بن أحمد الأول" ، وكان حدثًا لا يتجاوز الثانية عشرة، فصارت أمه السلطانة كوسم نائبة السلطنة ، تقوم بالأمر دونه ، لكن مقاليد الأمور كانت بيد الإنكشارية التي علا شأنها وإزداد نفوذها جداً ، وإطمأنت إلى أن السلطنة في يد ضعيفة.
تم عزل السلطان مصطفى الأول بعد وعد لأمه عالمة سلطان بابقائه حياً ، وإستلم العرش الأمير مراد إبن السلطان أحمد الأول.
عودة الهجمات الصفوانيين ضد الدولة العثمانية
إنتهزت الدولة الصفوية هذه الفوضى التي عمّت الدولة العثمانية ، فإستولت على بغداد ، وحاولت الدولة أن تستردها ، فبعثت جيشًا يقوده الصدر الأعظم "حافظ باشا" فحاصر المدينة في (1033 هـ - 1624 م) ، وضيق عليها الخناق ، ولكن دون جدوى فتذمّر الانكشارية، وأجبروا الصدر الأعظم على رفع الحصار والعودة إلى الموصل ، ومنها إلى ديار بكر، وهناك ثارت عليه الانكشارية ، فعزله السلطان حتى تهدأ الأوضاع ، وعين مكانه "خليل باشا" الذي سبق أن تولى هذا المنصب قبل ذلك ، لكنه لم يستمر طويلا، وخلفه "خسرو باشا" في سنة (1035 هـ - 1627 م).
وبعد تولّيه الصدارة اتجه إلى أرضروم ، ونجح في إجبار أباظة باشا على التسليم ، والدخول في طاعة الدولة ، وذلك في سنة (1037 هـ - 1629 م) ، وتقدم في الأراضي الإيرانية ، وإحتل همدان لكنه لم يفلح في إسترداد بغداد ، وإضطر إلى رفع الحصار عنها في سنة (1039 هـ - 1631 م) ، وفي طريق العودة عزله السلطان مراد الرابع وأعاد حافظ باشا إلى منصب الصدارة مرة أخرى.
خرج السلطان بنفسه على رأس حملة كبيرة إلى بلاد فارس في سنة (1045 هـ - 1635 م) ، وكان النظامُ يسود فرق الجيوش البالغة نحو 200 ألف جندي ، فأعاد الإنضباط ، وما كانت عليه الجيوش العثمانية في أيام سليمان القانوني من ضبط و نظام . و إستهل الجيش إنتصاراته بفتح مدينة "أريوان" في الشمال الغربي من إيران في (25 من صفر 1045 هـ - 10 من أغسطس 1635م) ، ثم قصد مدينة "تبريز" ففتحها في (28 من ربيع الأول 1045هـ - 10 من سبتمبر 1635م ) ، و لم يواصل الجيش فتوحاته في إيران؛ إذ عاد السلطان إلى بلاده طلبًا للراحة .
و ما كاد السلطان يستقر في إسطنبول حتى عاود الصفويون القتال ، فأستردوا "أريوان" بقيادة الشاه "صافي" بعد حصار لها دام ثلاثة أشهر ، و إستعادوا مدينة "تبريز" مع أجزاء كبيرة من أذربيجان .
إعلان إستقلال الدروز عن السيادة العثمانية
كان فخر الدين المعني الثاني أمير الدروز وأحد الولاة في الشام قد أعلن إستقلاله عن الخلافة العثمانية ، وقد كانت تجربته فريدة من نوعها ، حيث إستفاد من قضائه لـ 5 سنوات منفيا في فلورانسا ليتأثر بالنهضة الإيطالية ويعقد اتفاقات سياسية وعسكرية سرية مع البابا وأمير فلورانسا.
عاد الأمير فخر الدين إلى الأراضي الشامية العثمانية بعد صدور عفو عنه، وتمكن من بسط سيطرته على معظم أراضي لبنان الحديث واتخذ من صيدا مقرا لملكه.
كما عمل السلطان مراد الثالث على بناء جيش حديث مسلح بالأسلحة الإيطالية كما استقدم خبراء أوروبيين ، وجعل لبنة عساكره من الطائفة الدرزية ، وفي إحدى مكاتباته لحلفائه الإيطاليين عرض تسليم القدس وقبرص للإيطاليين ، وحمايتهما في سبيل حصوله على دعم البحرية الإيطالية ومزيد من الدعم العسكري.
إنكشفت المكاتبات للسلطان مراد وأراد أن يستأصل شأفته قبل أن يستفحل أمره ، ويوقع البلاد والعباد في ما لا تحمد عقباه ، فأوعز إلى والي دمشق ، فتقدم ذلك الأخير مع جيش فاق جيش الأمير فخر الدين عددا وعدة وخبرة ، فوقع في الأسر مع أبنيه ، وعند وصوله إلى إسطنبول حاول مراد الرابع ، الإبقاء على حياة أمير الدروز للمنجزات الحضارية التي كان قد خلفها في ولايته والخدمات السياسية التي أداها للأستانة ، إلا أن قيام ثورة حفيد فخر الدين جعلت الخليفة العثماني يأمر بقتله مع ولديه.
الوفاة
كانت وفاة السلطان مراد الثالث في يوم : (26 يوليو 1612 - 9 فبراير 1640 م).
( ختام تاريخ الملوك المعاصرين للخدمة )
إرسال تعليق