تابع : تفسير سفر الرؤيا
( تابع : الإصحاح الرابع )
أولاً - مقدمة عامة
عن أسرار العرش السمائي
" المشهد
السمائي "
والعلاقة بينه وبين
علامات المجئ الثاني
مقدمة :
لقد إجتهد البشر عبر العصور من أجل التوصل إلى تحديد زمن المجئ الثاني للسيد المسيح على وجه الدقة - وذلك بالإعتماد على مُعطيات وإستنتاجات مصدرها - العقل البشري المحدود - فالطبيعة البشرية مهما بلغت من قُدرات وإمكانيات ، ومهما تفوقت على نفسها في أمور الحياة بجميع مجالات ، فهي أبداً لاتتساوى مع قُدرة الخالق ، المالك وحدة لأسرار
الحياة ، وأسرار الموت ، وأيضاً هو وحده ، من بيده جميع أمور الإنسان في هذا العالم ، من حيث
إرادة الله في أن يأتي الإنسان إلى الحياة ، وإرادته في أن يعود إلى تراب
الأرض .
وفي ضوء الدراسات التاريخية التي أجريت حول هذه الإجتهادات البشرية ،
نستخلص الآتي : قام البعض من أصحاب الأفكار المنحرفة عن الإيمان القويم ، بالترويج
لأفكارٍ مضللة ـ قاموا من خلالها بتحديد فترات ( وهمٌية ) للمجئ الثاني ، ويوم
الدينونة - منها : تجلي بعض الظواهر أو العلامات التي تسبق المجئ الثاني -
منها :
(1) - إنتشار كلمة الله في ربوع الأرض :
في خلال الفترة من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، وحتي أوائل القرن العشرين من الميلاد ، قامت ( جماعة الأدفنتست ) ، والمعروفة أيضاً بإسم : ( جماعة السبتيون ) ، وجماعة ( شهود يهوه ) ، بإطلاق شائعات وأقاويل ، تتمثل في قيامهم بتحديد مواعيد نهاية الزمان ويوم القيامة ، وكيفية الإستعداد له ، وقد لاقت هذه الشائعات والأقاويل الكاذبة قبولاً كبيراً عند قاعدة عريضة من الناس آنذاك .
فقد كانت تلك الجماعات ، تستند في تحديدها لتلك الفترات الزمنية على بعض من الشواهد التي كانوا يقومون بالربط بينها وبين بعض آيات في الكتاب المقدس - نذكر منها على سبيل المثال ما ورد في ( إنجيل متى 24 : 14 ) - بما مضمون إنتشار كلمة الله في كل الأرض - حيث جاء في مضمون الآية مايلي : " ويُُكرز ببشارة الملكوت هذه كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ، ثم يأتي المُنتهي " .وقد تحققت بالفعل تلك النبؤة بإنتشار المسيحية في ربوع متفرقة من أنحاء قارة إفريقيا ، والأمريكتين ( الجنوبية على وجه التحديد ) ، وكذا في جميع أنحاء أستراليا ، وهذا بالإضافة إلى الكنائس التي كانت منتشرة في ربوع متفرقة أخرى من الأرض إلى جوار الكنائس الشقيقة القديمة ( الرسولية ).
وفي هذا الصدد - يحُضرنا أن نذكر - مدى إهتمام المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث بتأسيس الكنائس في القارات الجديدة ، ومدى تحمسه لهذا النشاط الإرسالي المثمر لرسالة الخلاص في ربوع متفرقة من الأرض .بالإضافة إلى ذلك - أن كتاب العهد الجديد - كان خلال تلك الفترة ، قد تُرجم إلى العديد من اللغات ، مما ساعد على إنتشاره عما قبل في العهود السابقة لبداية القرن العشرين الميلادي ، إذ زادت الترجمات للكتاب المقدس بمعدل [ 15 ] لُغة أخرى جديدة ، بالإضافة إلى اللغات الأصلية التي كانت موجودة من قبل كاللاتينية واليونانية والأرامية والسريانية والقبطية والعربية .كما أدخلت أنظمة جديدة ومستحدثة للترجمات لمن لايستطيعون القراءة - إسلوب الترجمة المسموعة .
ولعل من بين الأمور الأخرى التي يتضح منها مدى إنتشار رسالة الخلاص في ربوع الأرض ، أن جميع الكُتُب التي تتناول تنظيم الطقوس والقراءات الكنسية ، كانت قد تُرجمت إلى العديد من اللغات ، حيث أن هناك شعوب كانت لم تزل على غير علم بهذه الطقوس ، وكيفية ممارستها ، لعدم وجود تراجم تتناول توضيحها لتلك الشعوب والتي منها : اللغات الأريتريا ، والتجرينية ، والجيئزية ، والأمهرية .
إذا - فقد تحققت تلك العلامة ، بإنتشار كلمة الإنجيل في جميع ربوع الأرض ، وبذلك فتكون قد تحقق ما ورد في رو : 10 : 18 ، وهو ( إلى جميع الأرض خرج صوتهم ، وإلى أقاصى المسكونة أقوالهم ).
ولكن لايمكننا أن تربط بين تحقق تلك الظاهرة وبين تحديد يوماً بعينه لحدوث المجئ الثاني للسيد المسيح . وبالتالي نهاية العالم .
(2) - إيمان اليهودية بالمسيحية :
كانت أمة اليهود ، أمة رافضة للسيد المسيح - رسمياً - حيث أنهم هم من طالبوا بصلبه - وذلك وفق ما ورد في إنجيل يوحنا ( إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله .[ إنجيل يوحنا 1 : 11 ] .كما قال اليهود أيضاً - وذلك وقت صدور الحكم على السيد المسيح بالصلب ( دمه علينا وعلى أولادنا ) [ إنجيل متي 27 : 25 ] ، وقد إستمرت حالة الرفض العام من قِبل اليهود للسيد المسيح قائمة إلى عصرنا الراهن ، ومازالوا يصارعون من أجل مملكة أرضية ستتأسس ، وسيكونون هم أصحاب الغلبة فيها دون غيرهم من سائر أجناس الأرض ، على إعتبار أنهم " شعب الله المُختار ".
ومن أجل علم السيد المسيح بمدى جحودهم ، فقد قال : ( أنه لايُترك فيه حجر على حجر لا يُنقض - متي 24 : 2 ، مر 13 : 2 ، لو 21 : 6 ).وحتى الآن ، يمارس اليهود طقوسهم أمام حائط مبكاهم ( الذي هو بقايا سور هيرودس ، ليس على مافعلوه من صلب للسيد المسيح ، ولكن على مجدهم الذي فقدوه.
وقد ورد في نبوة " هوشع النبي " هذا القول : ( لأن بني إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك ، وبلا رئيس ، وبلاذبيحة ، بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم ، وداود ملكهم ، ويفزعون إلى الرب ، وإلى جوده في آخر الأيام - 3 : 4 ، 5 ).
وينبغي التنبيه هنا إلى أن " داود " المشار إليه - هو السيد المسيح .وفي رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية جاء : ( فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السِر ، لئلا تكونوا عند أنفسكم حُكماء ، أن الفساوة قد حصلت جُزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملوُ الأمم ، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل - 11 : 25 ، 26).
(3) - إزدهار حركة النهضة الروحية في ربوع المسكونة
فيما يخص إزدهار حركة النهضة الروحية في العالم ، فقد ذكر القديس بولس الرسول في هذا الصدد بإرشاد الروح القدس يقول : ( إن كان رفضهم هو مُصالحة العالم ، فماذا يكون إقتبالهِم إلا حياة من الأموات - رو 11 : 15 ).
وتكمن الحياة من بعد الموت هنا إلى نهضة روحية ستعم العالم أجمع ، والقديس بولس يشير إلى رفض اليهود للسيد المسيح ، والذي أدى إلى خروج الكرازة وتخطيها حدود اليهودية إلى بلاد الجوار ( الأُمم ).
ولكنها فيما يخص علامات المجئ الثاني ، تأخذ منظور أعمق وأشمل ، إذ أنها ستكون توبة عامة من جانب السواد الأعظم في المسكونة.
(4) - ظهور الوَحٌش والدجٌال
وردت الإشارة إلى ظهور مايسمى بالوحش قبل المجئ الثاني - في سفر الرؤيا ( 20 : 7 ، 8 ) ، حين قال يوحنا الحبيب بإرشاد الروح : ( ثم متى تمت الألف سنة ، يَحل الشيطان من سجنه ، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض ).
وكان الشيطان مُقيداً حينما صنع السيد المسيح منذ ألف عام ، ويشير هنا الرقم (ألف - 1000 ) ـ إلى زمن طويل ، وليس إلى رقم ألف العالمي - من المنظور المعروف في علم الرياضيات ، فالفداء قد تم منذ ما يزيد عن الألفي عاماً ، وقد ذكر الكتاب أن الشيطان مقيداً في النص التالي : ( ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده ، فقبض على التنين - الحية القديمة - الذي هو إبليس والشيطان ، وقيده ألف سنة ، وطرحه في الهاوية ، وأغلق عليه ، وخَتَم عليه ، لكي لايضل الأمم في ما بعده ، حتى تتم الألف السنة ، وبعد ذلك لابد أن يحل زماناً يسيراً - رؤيا يوحنا / 20 : 1 - 2 ).
ثم جاء بعد ذلك (ويل لساكني الأرض والبحر ، لأن إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم عالماً أن له زماناً قليلاً - رؤيا يوحنا / 12 : 12 ) .
ويُشار هُنا إلي المدة القصيرة التي سيكون خلالها إبليس مقيداً ، ومعنى ذلك أن نهاية العالم سوف تكون بعد أن ينال الشيطان حريته ، وبعد أن تُفك قيوده.
(5) - ظاهرة الإرتداد العام
إن المقصود هنا من ظاهرة الإرتداد العام والتي تسبق المجئ المنتظر للسيد المسيح - والتي قال عنها : ( لا يأتي والإشارة هنا إلي السيد المسيح ، إن لم يأتِ الإرتداد أولاً ، ويستعلن إنسان الخطية إبن الهلاك المقاوم ، والمرتفع على كل ما يدعي إلهاً أو معبوداً ، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرً نفسه أنه إله ... الذي بمجيئة بعمل الشيطان ، بكل قوة ، وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل خديعة الإثم في الهالكين ، لإنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ، ولأجل هذا ، سيُرسل إليهم الله عمل الضلال ، حتي يصدقوا الكذب ، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم - رسالة بولس الرسول إلى تسالونيكي : 2 : 3 ، 4 ، 9 - 12 ).
ونتيجة لظهور الوحش والعجائب الكاذبة التي سيصنعها ، فأنه سوف يَضِل كثيرون حتي أنهم سيصدقون أنه المسيح - حيث أنه ( يصنع آيات عظيمة ، حتى إنه يجعل ناراً تنزل من السماء على الأرض قُدام الناس ، ويَضِل الساكنين على الأرض بالآيات التي أعطى أن يصنعها - رؤيا يوحنا / 13 : 13 ، 14 ).
وقد قال السيد المسيح في هذا الصدد محذراً من وقوع الناس في الضلال قائلاً : ( إن قال أحد هوذا المسيح ، أو هناك ، فلاتصدقو ا - إنجيل متى / 24 : 23 ).
وللأسف ، فالكثير من الناس ضلوا ومازالوا يضلوا طريقهم ، بإتباعهم لهذا الوحش ، ويعبدونه - كما هو مكتوب : ( وأعطي أن يعطي روحاً لصورة الوحش ، حتى تتكلم صورة الوحش ، ويجعل جميع الذين لايسجدون لصورة الوحش يُقتلون ، ويجعل الجميع - الصغار والكبار - والأغنياء والفقراء - والأحرار والعبيد - تُصنع لهم سِمة على يدهم اليمنى ـ أو على جبهتهم ، وأن لايقدر أحد أن يشتري أو يبيع إلا من له السِمة أو إسم الوحش أو عدد إسمه - رؤيا يوحنا 13 : 15 - 17 ).
فالوحش يعمل دائماً بشكل مضاد للثالوث القدوس ( الآب والإبن والروح القدس ) لكي يُحرم البشر من الأبدية ، أما السيد المسيح ، يعمل من أجل جمع ربوات في الأبدية ، لذلك يُرمز إلى يسوع بالرمز : ( 888 ) - حيث أن رقم : (8) يرمز إلى قيامة السيد المسيح في يوم الأحد ـ أي اليوم الذي يأتي في بداية الإسبوع الجديد ، والتي تشير في مضمونها إلى ميلاد جديد لآدم ( مابعد السقوط في الخطيئة والحكم عليه بالموت الأبدي.
(6) - ظهور" أخنوخ " و " إيليا " النبيٌَان
من المعروف أن أخنوخ و إيليا - هما نبيان من أنبياء العهد القديم ، وأن الإثنين (أُوخذوا) ، ولم ( يموتوا ) ، وقد ورد ذكرهما - دون سواهما - في سفر الرؤيا ، بأن ظهورهما سوف يسبق المجئ الثاني للسيد المسيح للدينونة ، وبأنهما سيأتينا لابسين مسوحاً ، وبأنهما سوف يتنبآن ألفاً ومائتين وستين يوماً ، حيث أنهما الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رب الأرض ، وبأنهما سيخرجان من فهمهما ناراً على من يؤذيهما ، فتأكل هذه النار أعداءهما ، هذان لهما السلطان أن يغلقا السماء حتي لاتُمطر مطراً في أيام نبؤتهما ، ولهما سلطان على المياة أن يحولاها إلى دم ، وأن يضربا الأرض بكل ضربة كلما أرادا ، ومتي تمما شهادتهما ، وتكون جثتهما على شارع المدينة العظيمة التي تُدعى روحياً سَدوم ، ومصر ، حيث صُلب ربنا أيضاً - سفر الرؤيا / 11 : 3 - 8 .
يقال أن إيليا النبي المشار إليه هو " يوحنا المعمدان " الذي كان قد ظهر في تجسد جديد يدعي بدعة (عودة التجسد) ، ولكن هذا القول مرفوض وتُنكره الكنيسة تمام الإنكار .
(7) - فترة الضيق العظيم
سـأل التلاميذ مُعَلِمُهُم يسوع قائلين له : " قُل لنا متى يكون هذا ؟ ، وماهي علامة مجيئك ، وإنقضاء الدهر - إنجيل متى 24 : 3 " . فقال يسوع : ( إنظروا ، لا يضلكم أحد ، فإن كثيرين سيأتون بإسمى قائلين : أنا هو المسيح ! . فيضلون كثيرين ، وسوف تسمعون بحروب ، وأخبار حروب ، إنظروا ، لاترتاعوا ، لأنه لابد أن تكون هذه كلها ـ ولكن ليس المنتهي بعد ، لأنه تقوم أمة على أمة ، ومملكة على مملكة ، وتكون مجاعات وأوبئة ، وزلازل في أماكن ، ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع - إنجيل متى 24 : 4 - 8 ) .
من هنا نستخلص - أنه من علامات نهاية العالم ، والتي أطلق عليها يسوع فترة " مُبتدأ الأوجاع " - لا تنطبق على مرحلة ظهور الوحش ، والذي سيدعي أنه هو نفسه المسيح ، حيث يضل غالبية العالم في موجة الإرتداد العام التي قال عنها بولس الرسول ، ففي مُبتدأ الأوجاع - سوف يظهر أنبياءاً كذبة ، ويقومون بترويج أفكار مضلله ويقومون بنسب إسم المسيح لذواتهم ، وسوف تمر الكنيسة بفترات عصيبة من الإضطهادات والحروب ليس لها منتهي .
ثانياً - تفسير إعلان أسرار العرش السماوي
يبدأ الجزء الثاني من الرؤية اللاهوتية للقديس يوحنا الحبيب بمشهد السماء المفتوحة ، إذ يقول :
1 - " بعد هذا ، نظرت وإذ باب مفتوح في السماء ، والصوت
الأول سمعته يتكلم معي قائلاً : إصعد إلى هنا ، فأريك ما لابد أن يصير
بعد هذا ".
التفسير :
بحسب تفسير الأب " فيكتوريانوس " - فالمقصود هنا بباب مفتوح في السماء ، هو العهد الجديد الذي بدأ بمجئ السيد المسيح إلى العالم ، ثم بمقتضاه ، تم خلاص نفوس البشر بقداءه الكفاري على الصليب ، وموته ، وقيامته .وكتفسير معنوي ، ويمكن أن نقول أن الباب المفتوح في السماء ـ هو قلب يسوع المفتوح في وجوهنا لكي يستوجب كل نفس صالحة ومؤمنة ، فالربَ يحِبُ الإنسان حُباً لا يمكن لبشر أن يدرك مداه ، فلذلك - فتح له الباب الذي كان قد أغلقه منذ القديم بعد خطية الإنسان الأول " آدم " ، فها هو باب السماء يُفتح من جديد بفداء يسوع لنا على خشبة الصليب .
وبحسب تفسير القديس " إمبروسيوس " - فإن السيد المسيح - كان قد صعد إلى سماء مجده مُتَزَيناً ومنتصراً ، لأن الداخل فيه ليس إنساناً واحداً ، بل دَخَل جميع المؤمنون في شخص يسوع .
فالرب إذاً يدعونا ان نصعد إلى المجد السمائي لكي نرى ما أعده لنا .
العرش السمائي
2 - " للوقت صِرت في الروح ، وإذ عرش موضوع في السماء ، وعلى العرش جالس ".
التفسير :
رأي القديس " يوحنا الحبيب " - بعد أن صَار في الروح - أي بمجرد أن ناداه الرب آمراً إياه أن يصعد ، فصار يوحنا في الروح ، شأنه في ذلك شأن أي إنسان يستمع إلى الرب ، ويصغى إلى كلماته ، ويلبي نِداءه ، والذي لاينقطع لأي إنسان قائلاً له : " تعالي إليٌ " ، فللوقت يتخلص الإنسان من سجن جسده الذي يُثقله ، ويصبح بموجب إستماعه لهذا النداء الرباني الحاني ، حُراً ، منطلقاً بالروح إلى رب المجد ، حيث تكون الراحة الأبدية .وبمجرد أن أبصر يوحنا عرش الله بالروح ، وشاهد مجد الله العظيم ، والذي يملأ أركان العرش ، فقد رأي بذلك بهاء عظيم لايُشابهه بهاء آخر في أي من ممالك الأرض كلها ، ولم يستطع يوحنا في خلال تعايشه في هذا المشهد الممتلئ جلالاً ، أن ينطق بإسم رب العرش ، فدعاه جالساً .ويجدر بنا أن نتوقف هنا لنتأمل معاً المعني الذي يكمن من وراء هذا المقطع الوارد بالسفر في مرحلة من أهم مراحل الرؤيا اللاهوتيه .يتمثل هذا المشهد في ثلاث إيضاحات :
الإيضاح الأول :
يذكرنا مقطع رؤية يوحنا الحبيب لعرش الله ، بأنه رأى عرشاً موضوعاً في السماء وعلى العرش جالس ، بالإشارات والعلامات والرموز التي وردت في نبؤات العهد القديم .فمن تابوت العهد الذي يوجد في قدس الأقداس ، علامة لحلول الله ، وهذا نفس التقليد الذي يتبعه الإنسان في عصور مابعد الصليب والفداء ، ففي كنائسنا مذبحاً ، يتربع عليه الرب ، نأكل من جسده المذبوح في العهد الجديد لأجلنا نحن الخُطاة ، ونسرب من دمه الذي غسلنا وطهرنا من معاصينا .
الإيضاح الثاني :
إن السبع منابر الذهبية - تُذكرنا بالسبع سرج للمنارة التي ورد ذكرها في العهد القديم ، ونحن نستخدم في كنائسنا القناديل لكي تُنير أمام الهيكل ، وذلك دلالة على وجود الرب في وسطنا ومعايشته لنا كل أيام حياتنا .
رمز الأربعة وعشرين قسيساً في السماء ، هي إشارة إلى القساوسة الذين بواسطتهم ، تُقام القداسات في كنائسنا ، فالمعني هنا هو أن للرب كهنة سمائيين ، ولكن لحضوره الدائم في كنيسته على الأرض ، يقيم القسس قداسات في الكنائس الأرضية ، لكي ينال الشعب بركة الرب من خلال الكنائس ، وخدمتها بواسطة الكهنة .
لإيضاح الرابع :
رؤية يوحنا الحبيب في هذا المشهد الجليل ، بحراً زجاجياً ، ثم يُقابله بحراً نُحاسياً .يُرمز هنا بالبحر الزجاجي الذي يقابله بحراً نحاسى إلى المعمودية التي هي سبيل الإنسان للتبني ، ودخول المجد السمائي ، والتنعم بحياة دائمة لاتنتهي مع الرب .
الإيضاح الخامس :
المجامر الذهبية التي عاينها "يوحنا الحبيب " في رؤياه ، وكذلك الثياب البيض ، والمذبح ، والهيكل ، كلها تشير بوضوح إلى الكنيسة في العهد الجديد ، والتي إزدهرت بداية من عصر الرسل ، وظلت - بفضل رعاية الله لها - مزدهرة ، ورسالتها قائمة ، وموجودة لن تزول ، حيث أنها ثمرة جهاد الآباء من أقوياء الإيمان عبر العصور ، وأيضاً ثمرة جهاد أبناءها من الشهداء على مر العصور ، وأيضاً من قاموا بإعلاء كلمة الرب من خلال خدمتهم الكرازية والتبشيرية في ربوع الأرض ، مما ساعد - وبقوة - على إنتشار كلمة الخلاص ، محتملين بثبات كل الضيقات والحروب والآلام في سبيل حفظ الإيمان ، وأيضاً جمع غروس جدد في الإيمان ، لتنمو وتزداد كلمة الرب .
الإيضاح السادس :
إن المقصود بالأريعة المخلوقات الحية ( حاملين العرش ) ، والذي يقابلها الكاروبيم المُظللين للتابوت ، هي الأناجيل الأربعة ، التي هي ذخيرة الكنيسة المسيحية ، وأساسها ، فالكنيسة ترتبط إرتباطاً وطيداً بالكتاب المقدس .
ثم نستكمل الرؤيا بعد ذلك بحسب قول " يوحنا الحبيب " على النحو التالي :
" وكان الجالس في المنظر ، شبه اليشب ، والعقيق ، وقوس قُزح حول العرش ، في المنظر شبه زمرداً ".
التفسير :
إن مجموعة الأسماء المستخدمة في وصف المنظر ، إنما تدل على مدى روعة وجمال الجالس ، فاليشب والعقيق والزمرد ، من اندر الأحجار الكريمة ، وأغلاها ثمناً وأبرعها جمالاً .وتدل الأحجار الكريمة هنا في المعني إلى الأسباط ، فالله يضع على صدره ، وفي داخل قلبه أصغر وأكبر إنسان ، فكل البشر محفورين في قلبه .
وينبغي هنا أن نوضح النقاط التالية :
الإيضاح الأول :
إن " اليَشب " - عبارة عن معدن حجري شفاف جداً - وهو يرمز إلى " مجد الله الخالق الكامل ".
الإيضاح الثاني :
إن " العقيق " - عبارة عن معدن حجري ثمين القيمة ، يمتاذ بإحمرار لونه ، وهو يرمز إلى " النار " ، التي هي مصير كل جاحد وخاطئ . كما أنها - من جهة أخرى - تشير إلى " رهبة الله وعدله ".
الإيضاح الثالث :
تُعرف ظاهرة " قوس قُزح " - هي إشارة الأمان التي تعلن توقف العواصف والأمطار ، وتأتي بعدها مباشرةً ، وهو يشير إلى " إحسانات وصلاح ومواهب وقدرات الله المتعددة الغير محدودة ولا محصورة".
الإيضاح الرابع :
" الزمرد " هنا يشير إلى " سبط لاوي " - أو " العمل الكهنوتي الذي يشفع فينا من قِبل الرب " .ونلاحظ أن الحبر الأعظم دائماً مايُعلق في صدريته زمرداً ، وهو يلتحم بالقوس قُزح ، ويُقصد بذلك - قوس الحرب الذي يستخدمه الجنود في الحروب لكي يتصدون بواسطته لأسهم الأعداء ، والرب يحمل لنا قوس النجاة من أسهم إبليس ، فهو حصننا المنيع ، ودرعنا القادر على حمايتنا ضد ضربات العدو .ويذكر لنا التاريخ - فيما يخص دلالات الزمرد في سفر الرؤيا ـ ان لونه يميل إلى الخضرة ولا يتأثر بآشعة الشمس ، فكان الإمبراطور الروماني " نيرون " يضع أمامه زمرداً لكي ينظر إليه في فترات تعذيبه للأبرار ممن جاهروا بإيمانهم أمامه ، لكي لا يتأثر هو بالمشاهد الدموية الرهيبة.
تابع المزيد عن تفسير إعلان أسرار العرش الإلهي من هنا
احسنت
ردحذفاشعر براحة نفسية 😍