سلسلة تفسيرات سفر الرؤيا
للكاتب والباحث الشماس / أشرف صالح
تابع " تفسير
الإصحاح الخامس "
نستكمل معاً ما بدأناه من تفسير الإصحاح الخامس من سفر الرؤيا ، حيث نتعرض الآن للجزئية التي يكشف لنا فيها رب السماء العظيم ، عن خبايا مجده للقديس " يوحنا الحبيب " ، الذي دوٌنَ ما رآه بإرشاد الروح فقال :
مضمون الرسالة :
1 - " ورأيت عن يمين الجالس على العرش سفراً مكتوباً من داخل ، ومن وراءه مختوماً بسبعة ختوم " .
التفسير :
تُشير السبعة ختوم هنا إلى سبب إحتجاب مفاهيم الرب عن عقول الناس لإعتمادهم في أفكارهم على الأخذ بالمُسَلٌمَات المادية ، والتي يغلب عليها النظرة المحدودة للأمور ، والتي تعبر عن محدودية العقل البشري الإنساني المحدود القدرة والإدراك .
وقد ذكر القديس " جيروم " في تفسيره لهذا المقطع يقول :
" المقصود بالسفر المختوم بسبعة ختوم ، هو هذا الذي متى سلمته لواحد متعلم
قائلاً : [ إقرأ هذا ، فيجيبك لا أستطيع لأنه مختوم ].
فالمقصود بالختوم هنا ، هو إغلاق الشئ إغلاقاً مُحكماً لايستطع أن
يفتحه أحداً .
كذلك المؤمنين في الكنائس ، يتمثلون في صلواتهم بنفس هذا الإسلوب ،
فيمتلئ العرش السمائي بالتسابيح البشرية ، من المُجاهدين الأحباء ، وأيضاً
المُنتقلين .
وهذا يتماثل مع ما جاء بمزمور داود النبي القائل : "ولتستقم
صلاتي كالبخور قُدامك".
وفيما يخص جملة " ترنيمة جديدة " - فتفسيرها ، ان البشرية
قد عرفتها منذ العهد القديم ، ألا وهي مزامير الطوباوي " داود " ، الذي
يتغني به البشر ، ويترنمونَ بكلماته الساحرة البالغة الجمال في عصرنا
الحالي .
وفي هذا النحو يذكر القديس " أغسطينوس " قائلاً : " أن الإنسان
العتيق - تسبحته قديمة ، والإنسان الجديد - تسبحته جديدة ".
مضمون الرسالة :
2 - " ورأيت ملاكاً قوياً ، يُنادي بصوتٍ عظيم ، من هو يستحق أن يفتح السفر ، ويفُك ختومه ؟ ".
التفسير :
يشار هنا إلى مدى الشرف العظيم الذي سيناله أو يستحقه هذا السفر ، حيث أن ملاكاً من طغمات السماء الغالية لايقوي على فتحه ، وفي نداء الملك هنا إعلاناً للبشر لخلاص نفوسهم ، وميراثهم ، مع تأديبهم ، فالملائكة ذات القوة السمائية الخارقة لن تقوي على فتح السفر المختوم.
إذاً - من هو فاتح السفر ؟
مضمون الرسالة :
من المقطع التالي - نتبين من خلاله أن هناك إشارة إلى شخص فاتح السفر
حيث قال :
3 - " فقال لي واحد من القسوس " الشيوخ " ، لاتبكِ ، هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا ، أصل داود ، ليفتح السفر ، ويفُك ختومه السبعة ، ورأيت وإذ في وسط العرش والمخلوقات الأربعة في وسط الشيوخ ، خروف قائم كأنه مذبوح له سبعة قرون وسبعة أعين هي سبعة أرواح الله المُرسلة إلى كل الأرض " ، " فأتي ، وأخذ السفر عن يمين الجالس على العرش " .
التفسير :
من الوهلة الأولى ، يمكننا التوصل إلى شخص فاتح السفر ، فهو أحد القسوس ، حيث إعترف بصفاته ، ورمز له بعددٍ من الرموز التي تشير كلها إلى شخص السيد المسيح له المجد .
في هذا الصدد - يذكر القديس " كيرلس الأورشليمي "
فيقول : " أنه يُدعى أسداً لا لكونه متوحشاً للبشر ، أو مفترساً للبشر ، بل
هذا علامة لمُلكه ، وقدرته ، ثباته " .
كما يُضيف أيضاً فيقول : " أن الأسد - مقابل الأسد - خصم كل مؤمن
، الذي يزأر مُفترساً نفوس الضُعفاء " .
كما ورد في تفسير القديس " يوحنا ذهبي الفم " - أن الأسد -
كما هو مُرعباً - لا في يقظته أو نومه ، كذلك السيد المسيح - الذي لايغفل عن رعاية
بني الإنسان والسهر على خلاص نفوسهم ، لا قبل الصليب ولا بعده ، فكان في لحظة موته
على خشبة الصليب ، وحتي إنتصر على الموت سلطانه .
وفي تفسير جزئية ـ أنه " من سبط يهوذا " - " أصل داود
" - فنذكر هنا ما جاء في العهد القديم ، من مدونات الأنبياء - كموسى النبي ،
وإشعياء النبي ، وحزقيال النبي وغيرهم من الأنبياء - أنه من سبط يهوذا - سيأتي
مخلصاً - أي السيد المسيح له المجد - الذي تحقق بموجبه وبواسطته الخلاص في العهد
الجديد .
وعن أصل داود - نرى التفسير في إجابة السيد المسيح نفسه عندما
قال :
" أنا أصل وذُرية داود ، وذلك لأنه خالق داود ، وصار إبنه
بالجسد ".
وعن تفسير جملة " حَمَل قائم كأنه مذبوح " - نذكر كلمة
" حمل " التى ذُكِرَت في سفر الرؤيا تسعة وعشرين مرة ، ذلك لأنه سفر
الأبدية ، ومعنى كلمة " حمل " في اللغة اليونانية " حمل صغير
" - أو " حولى " ، وهي ذاتها الذبيحة الكفارية - " حمل
الذبيحة الكفارية " - الذي حمل عنا آثامنا بفداءه على خشبة الصليب .
ومعني كلمة " قائم " - أي أنه نشيطاً - ولا يكُف عن العمل ،
لكي يتم بموجب هذا الجهد المتواصل والدؤوب في العمل بدون توقف ، خلاص
نفوسنا .
وكلمة " قائم " ، تُشير أيضاً إلى أنه ينظر له " كشفيع
كفاري " ، قدم دمه كفارة عن خطايانا .
وأما عن تفسير جملة : " كأنه مذبوحاً " - فهذا لأنه حيٌ ،
لايرقد كجثة متعفنة في لحٌد ، وفي نفس الوقت يفيض دمه لكي يغسل قلوب أبنائه من
المؤمنين .
وفي تفسير جملة " له سبعة قرون " - نذكر أن القرن يُشير إلى
سلاح الحيوان في دفاعه عن نفسه ، وفي تحليل المعني - نصل إلى أن معنى أو مفهوم
كلمة " القرن " - هنا - هي القوة - ويُرمز للقرون برقم ( 7 ) ، التي هي
إشارة إلى الكمال في الرقم ( 7 ) ، والتي تمثل يوم الراحة بعد إكتمال تأسيس أعمال
الله في بدء الخليقة.
وفي تفسير له " سبعة أعيُن " - نذكر - أن الأعين هنا تشير إلى
أرواح الله السبعة التي تقود الكنيسة .
مضمون الرسالة :
4 - "ولما أخذ السفر ،خَرٌت الأربعة مخلوقات الحيـٌة ،والأربعة
وعشرين قسيساً أمام الخروف ".
التفسير :
إن المقصود هنا بالمخلوقات الأربعة الساجدة ، هي مخلوقات سمائية تشكر الله
دون توقف أو ملل ، وهي دلالة على روح الإيمان الذي يهتف داخل كل مؤمن لكي يعترف كل
حين بفصل الله عليه ، وبمحبته له .
مضمون الرسالة :
5 - " ولهم كل واحد قيثارات ، وجامات ، من ذهب مملوءة بخوراً هي
صلوات القديسين ، وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين : " لأنك ذُبحت وإشتريتنا
لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة ، وجعلتنا ملوكاً ، وكهنة ، فستملك على
الأرض " .
التفسير :
المقصود من هذا المقطع - هو إسلوب الصلاة النموذجية - فالقيثارات تشير إلى الألحان الكنسيٌة التي نترنم بها في صلواتنا داخل الكنيسة . في حضرة مجد الله .
وجامات الذهب هي المباخر التي تفوح منها رائحة البخور ـ والكنيسة تعمل بهذا
الإسلوب في طقوسها في القداسات الإلهية .
ورفع الكفوف إلى أعلى - دلالة تشير إلى التضرع إلى الله " ليكن
رفع يدي كذبيحة مسائية " - بحسب ما جاء على لسان المرنم " داود النبي
".
وقرع الصدور أثناء الصلاة بقبضة اليد ، تشير إلى إسلوب " العشار
التائب ".
والوقوف بخشوع ورِعده " مزمور 55 : 5 " .
وعن إيقاد الشموع في الصلوات يقول الأب " صاروفيم الصاروعسكي " : " ليت قلبنا يُضرم بالنار ، وحياتنا تضئ كنور أمام الرب الإله كشمعة موقدة أمام أيقونته المقدسة " ـ أما فيما يخص القسوس ، فقد ذُكِرُوا مرة أخرى ، ولكن في هذه المرة ، كانوا يُسَبٌحُونَ ويُرَنِمونَ بألحانٍ سمائية ، ويسجدون بإستحقاق أمام عرش الله .
مضمون الرسالة :
6 - { ونظرت ، وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش ، والمخلوقات الحية ، والقسوس ، وكان عددهم ربوات ربوات ، وألوف ألوف ، قائلين بصوتٍ عظيم ، مُستحق هو " الخروف المذبوح " أن يأخذ القُدرة ، والغني ، والحكمة ، والقوة ، والكرامة ، والمجد ، والبركة }.
التفسير :
إن البعض ممن ينظرون إلى الأمور بمنظور مادي عالمي محدود ، قد لايستطيع أن يُدرك المقاصد التي يهدف إليها سفر الرؤيا من هذا الوصف .
ولكن بالنظر إلى جوهر الكلمات ، وعُمق معانيها الواردة في الوصف السالف للخروف المذبوح ، نستخلص مدى الفرح الملائكي بقربهم من الله ، فيترنمون له دون ملل أو تراخي ، ومنذ ميلاد السيد المسيح ، إشتركت الملائكة في التسبيح فرحاً بميلاده ، وحتى ليلة الصلب ، كانت الملائكة تقدم له المجد في بستان جشثيماني ، وفي فجر القيامة ، دحرج الملاك الحجر من أمام قبره لكي يخرج رب المجد منتصراً على الموت ، جالساً عن يمين الآب ، وها هي الملائكة تُرنم وتُسبح للخروف المذبوح ، حيث أنهم يرونه معنا ، لأن مانناله من مجد يسوع ، كأنهم نالوه هم أيضاً .
ثم نأتي هنا لتفسير الصفات المذكورة في هذا المشهد :
1 - القدرة : إشارة إلى أنه
الغالب الذي به غلبنا وسِرنا منتصرون .
2 - الغِنيَ : إشارة إلى أنه جاء
متواضعاً مفتقراً ، ولكنه غنياً بمجده .
3 - الحكمة : إشارة إلى أنه إدعى
الجهالة بصلبه ، ولكنه حكيم بفداءه .
4 - القوة : إشارة إلى ضعفه على
الأرض ، لكي يُسند الضعفاء .
5 - الكرامة : إشارة إلى ذاته في
الجسد ، لكي يتمجد به البشر .
6 - المجد : إشارة إلى إحتواءه
لخطايا البشر في جسده على الأرض ، لكي نكون مُباركين .
7 - البركة : إشارة إلى إنحناءه ليحمل الصليب الذي به حمل لعنتنا ، لكي نكون مقبولين ومُباركين .
تتبع البقية في الجزء التالي
إرسال تعليق