💠 سلسلة تأملات في أسبوع آلام مخلصنا 💠
يوم الجمعة العظيمة
مقدمة
إن يوم "الجُمٌعَة العَظِيٌمَة" ، أو "الجُمٌعَة الكَبِيُرَة" ، هو اليوم الذي صُلِبَ فيه السيد المسيح له كل المجد ، وأيضاً هو يوم موته على الصليب ، موتاً حقيقياً ، رافعاً معه على خشبة الصليب ، خطايا الجنس البشري بأكمله.
هذا - وقد عُرِفَ يوم "الجُمعة العظيمة" ، بعدة أسماء أخرى - نذكر منها : "جُمعة الآلام" ، و"جُمُعَةُ الصَّلَبُوتِ" ، و"الجُمعة السَوٌدَاء" ، و"الجمعة الجَيٌدَة" ، و"الجُمعة المُقدسة" ، و"الجمعة الحزينة" ، و"جمعة عيد الفصح".
ويوم "الجمعة العظيمة" - هو يوم تُقدسه الكنيسة وشعبها في جميع ربوع الأرض ، كما أنه يُحسب كعطلة رسمية في معظم دول العالم ، وذلك لما له من أهمية خاصة ، من حيث القداسة ، حيث أنه مناسبة يتم من خلالها إستذكار أحداث آلام السيد المسيح وصلبه وموته في الجلجثة ، ثم دفنه.
هذا - ومن الأرجح - أن "الجمعة العظيمة" - من الوجه التاريخية ، قد حدث في 3 أبريل 33 ، وذلك إستنادًا إلى فصح اليهود - الذي صلب فيه يسوع حسب الإنجيل - من جهة، وحادثة إظلام السماء التي أشار إليها الإنجيل أيضًا من جهة ثانية ومجموعة أبحاث ودراسات متعددة أجريت في هذا الصدد.
هذا - وتعتبر المناسبة يوم صوم إلزامي للمسيحيين ، واللون التقليدي للإشارة إليها هو الأسود أو الأرجواني في التقليد السرياني والقبطي أو الأحمر في التقليد اللاتيني الروماني.
تقاليد وعادات المجتمع المسيحي في هذا اليوم
يُعتبر يوم "الجمعة العظيمة" ، هو يوم يلتزم به المسيحيين جميعاً في مختلف الطوائف والكنائس المسيحية ، بصومٍ إلزامي ، يتم الإنقطاع فيها عن الطعام والشراب في الكنيسة الكاثوليكية من منتصف ليل الخميس وحتى ظهر يوم الجمعة ، أو حتى السادسة من مساء الجمعة ، كما في الكنيسة القبطية والبيزنطية ، وتكون الوجبات اللاحقة نباتيّة ، وغير مطبوخة وغير محلاة.
وفي بعض البلدان ، ترتبط "الجمعة العظيمة" بمأكولات معينة ، في سوريا ولبنان يعد طبق يدعى "الحر والمُر" لمناسبة الجمعة العظيمة ، وهو عبارة عن سلطة خضار ، يضاف إليها زيتون ، وذلك لإضفاءً نكهة من المرارة تيمنًا بالسيد المسيح ، الذي ذاق المُر على صليبه وفق رواية العهد الجديد ، في مصر يتم الإفطار بتناول الفول فقط ، وبدون زيت ، مع رشفه من حامض الخل.
كغيرها من الإحتفالات الليتورجية والطقوس المسيحية ، فإن رتبة الجمعة العظيمة حسب مختلف الليبتورجيات والثقافات في العالم المسيحي ، تحوي عددًا من القراءات المبوبة في ثلاث حلقات ، كتابات الأنبياء السابقة للمسيح أولاً ، والمزامير ثانيًا ، وأما ثالثًا فهناك قراءات العهد الجديد التي تحوي الإنجيل.
ترتيبات الكنيسة للصلاة في هذا اليوم
تُحرص جميع الكنائس ، على بدء الصلاة في يوم "الجمعة العظيمة" ، في تمام الساعة التاسعة صباحاً ، وتستمر الصلاة حتى الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه.
هذا - وتستمد الكنيسة - منذ العصر الرسولي - وذلك من خلال المصادر التي تركها العهد الرسولي من أناجيل ورسائل مقدسة ، كل ما تلتزم به من قراءات وطقوس وترتيبات خاصةً بالصلاة في هذا اليوم ، حيث تعد الأناجيل المقدسة ، هي المصدر الأساسي للحصول على أخبار وتفاصيل أحداث القبض على يسوع ، ومحاكمته ، وتعذيبه وصلبه ومن ثم موته ودفنه التي تستذكر في هذا اليوم.
ويوضع في الإعتبار ، أن القراءات التي ترتبها الكنيسة في ذلك اليوم المقدس ، لا تُقام جميعها في الرتبة الأساسية يوم الجمعة ، وإن إرتبطت به عضويًا ، حتى لو تليت في ليل الخميس، أي كمثال في الطقس البيزنطي تتلى "أناجيل الآلام" موزعة على اثني عشر قراءة بعد غروب شمس الخميس، والترتيب مختلف في طقوس أخرى.
هذا - وتُرتب الكنيسة ، طقوساً خاصة للصلاة في يوم "الجمعة العظيمة" ، تتم خلالها قراءة الأناجيل المقدسة ، من العهدين القديم والجديد ، بترتيبات خاصة ، وهي التي سوف نفصلها على الإجمال على النحو التالي :
هذا - وتنقسم القراءات التي تتلى في هذا التذكار المقدس ، إلى قسمين :
|+| أولاً - قراءات عشية الجمعة العظيمة |+|
تحرص الكنيسة على قراءة بعض فصول من الأناجيل المقدسة من كتاب العهد الجديد المقدس ، في عشية يوم "الجمعة العظيمة" ، هي تتضمن مايلي :
تبدأ بقراءة "الرسالة إلى أهل غلاطية 2 ، 3" ؛ والرسالة إلى "العبرانيين 4: 14 - 5: 9" ، وفي النصّين يناقش القديس بولس قضية الفداء وكفارة الإثم.
أما القراءات التي تُقرأ في يوم "الجمعة العظيمة" ، فهي من أناجيل : "متى 26، 27 ومرقس 14، 15 ولوقا 22، 23" ، وأخيرًا "يوحنا 18، 19" ؛ في الطقس البيزنطي ، وكذلك الطقس الأرمني توزع النصوص على إثني عشر قراءة في خدمة خاصة معروفة بإسم : "أناجيل الآلام المقدسة" ، تتم مساء "الجمعة العظيمة" أي في ليل الخميس.
العشاء الرباني عشية الجمعة العظيمة
|+| ثانياً - قراءات الجمعة العظيمة من العهد الجديد |+|
في يوم "الجمعة العظيمة" - فيقرأ النصّ مما بعد إنزال المسيح من على الصليب من إنجيل لوقا؛ في الطقس السرياني تقرأ النصوص في أربع قراءات ظهر الجمعة العظيمة ؛ أما في الطقس الروماني ، فيقرأ عادة النص من إنجيل يوحنا ، ومما بعد الإنزال من إنجيل لوقا في قرائتين.
|+| ثالثاً - قراءات الجمعة العظيمة من العهد القديم |+|
ومن العهد القديم ، تقرأ الفصول التالية من أسفار الأنبياء :
أشعياء 53 : والذي يُشير إلى "القادم الذي سيأتي" ، وما سيواجهه من آلام ، واعتبره بعض اللاهوتيين "أصرح النصوص ، وأعمقها في شرح سر الفداء".
النص الثاني هو من دانيال 7، 9 : والذي إستشهد ببعضه المسيح خلال المحاكمة ، يشير دانيال النبي إلى إبن الإنسان الذي "قرّب أمام الله فأعطي سلطًا ومجدًا وملكوتًا"، ويتابع في الفصل التاسع ليشير إلى "تكميل المعصية ، وتتميم الخطايا ، وكفارة الإثم، وختم الرؤيا والنبوة ، ومسح قدوس القدوسين" ؛ وبالتالي يرتبط عضويًا بالموضوع الأساسي للغفران والتوبة التي منحها الله بشكل نهائي بموت ابنه وقيامته، ومن ثم كمال إعتلانه للبشر بأنّ خُتِمَت الرؤيا والنبوة ، ومسح قدوس القدوسين أي المسيح، حسب النص.
النص الثالث من زكريا 11، 12 : والذي يرتبط بيوم جمعة الآلام من حيث كونه نبؤة تتعلق بالخيانة والموت الذي يتعرض له "الممسوح الذي سيأتي"؛ في الجزء الثاني من النص الإشارة إلى أنهم "ينظرون إلى الذي طعنوه ، وينوحون عليه كنائح على وحيد له ، ويكونون في مرارة كم هو في مرارة على بكره" ، بما يتفق مع الحوادث التي ذكرت لاحقًا في إنجيل يوحنا.
النص الرابع الذي تضيفه بعد الليتورجيات هو أشعياء 40 : وذلك لإفادته التعزية "طيبوا قلب أورشليم ، ونادوها بأنّ جهادها قد إكتمل ، وأن إثمها قد أعفي عنه".
ومن المزامير أيضاً ، تُقرأ المزامير الأكثر إرتباطًا بيوم الجمعة العظيمة .
حيث تقرأ "المزامير من المزمور 3" ، ويقرأ في بعض الليتورجيات الشرقية ، لإرتباطه بالتوبة ، وطلب المعونة.
أما "المزمور 22" ، يعتبر من أشهر مزامير "المسيح المتألم" ، وقد إستعمل السيد المسيح إحدى آياته: "إلهي إلهي ، لماذا تركتني؟" ، وهو على الصليب ؛ وقد إعتبره بعض دراسي الكتاب المقدس بأنه "يقودنا إلى المكان المدعو جلجثة ، ويُبسط حادثة موت المسيح بشكل واضح".
وأخيرًا فإنّ المزمور 118 ، يقرأ في الإشارة إلى "الحجر الذي رفضه البناؤون، قد صار رأس الزاوية" ، ويحوي عدة إشارات مسيّانية أخرى.
رمزية أحداث الجمعة العظيمة في العهد القديم
هناك العديد من الأحداث الكتابية الواردة في العهد القديم ، والتي وجدها المسيحيون وآباء الكنيسة منذ الأجيال الأولى للمسيحية ، صورة مسبقة عن مأساة الجمعة العظيمة ؛ يشمل ذلك بوجه الخصوص تضحية إبراهيم بإبنه إسحق ، وإستبدال الأضحية البشرية بالكبش.
أما رواية الطوفان - التي جددت فيها عن طرق نوح البشرية كلها ، فهي بدورها خلفية للتجديد الذي سيجريه المسيح بموته وقيامته ، وطقوس عيد الفصح اليهودي الواردة في توراة موسى لاسيّما ذبح الحمل "الكامل الذي لا عيب فيه" ، في [ سفر الخروج 12 ] ، هي صورة مسبقة للتكفير عن الإثم الذي تممه المسيح في سر الفداء ، بل إن الفصح اليهودي القائم على الإنتقال من العبودية إلى الحرية ، تممه المسيح روحيًا بموته وقيامته.
وقد أشاد سفر الرؤيا بالمسيح بوصفه «حمل الله» ، مُستلهمًا من موسى وتوراته ، ونُوقِشَت القضية في مواضعٍ أخرى عديدة من العهد الجديد ، ومنها الرسالة إلى أهل غلاطية والرسالة إلى العبرانيين.
السيد المسيح يحمل الصليب في طريقه إلى موضع الجُلجثة
أحداث الجمعة العظيمة في العهد الجديد
لقد كانت شعبية يسوع المتزايدة تثير قلق أحبار اليهود الذين خلصوا إلى نتيجة مفادها وجوب موته خوفًا من ثورة سياسية ضد الحكم الروماني تفضي إلى تدمير الحكم الذاتي الذي يتمتع به المجتمع اليهودي ؛ حسب الإنجيل ـ فقد أخذ يهوذا الإسخريوطي أحد التلاميذ الإثني عشر مبلغاً من السنهدريم ، إستعداداً لتسليمه ، وفي يوم الخميس بعد عشاء الفصح التقليدي الذي أقامه يسوع مع التلاميذ ، وبينما كان يصلي في بستان جثيماني تقدم الإسخريوطي مع حشد من الجند الرومان ، وألقوا القبض عليه.
في أعقاب ذلك ، سيق يسوع في المساء إلى منزل حنّانيا رئيس الكهنة ، ثم إلى منزل قيافا رئيس الكهنة الحالي وهناك حكم عليه بالموت بتهمة التجديف بعد أن قال بأنه المسيح.
هذا - وتذكر الأناجيل أن يسوع ، قد ضُرِبَ ، وأهين ولفق عليه شهود الزور وأنه حسب الشريعة اليهودية تعتبر محاكمته غير شرعية. بكل الأحوال ، في اليوم التالي ، عقد السنهدريم إجتماعًا رسميًا بكامل أعضاءه ، وأقر عقوبة الموت التي حصرها القانون بين الحاكم الروماني ، ولذلك سيق يسوع إلى بيلاطس البنطي ، المتواجد في القدس للإشراف على الأمن في عيد الفصح.
هذا - وقد إستجوب بيلاطس البنطي يسوع مرتين ، وأرسله إلى هيرودوس أنتيباس حاكم الجليل ، وعبّر صراحة أنه لا يجد فيه ذنبًا سيّما أن الأحبار ، إتهموا يسوع بالثورة على الحكم على بالتجديف ، كما أدانوه ، لكون التجديف عقوبة لايلحظها القانون الروماني.
وقد جُلِدَ بيلاطس يسوع ، وخيّر الجمع بينه وبين باراباس ، ومن ثم وتحت ضغط الأحبار سلّمه ليصلب.
ثم خرج يسوع حاملاً صليبه من دار الولاية إلى تل الجلجثة ، ولم يستطع أن يكمل الطريق بسبب الآلام التي ذاقها نتيجة الجلد بالسوط الثلاثي ، وما إستتبع ذلك من إهانات وتعذيب من قبل الجند الرومان ، كوضع تاج من شوك على رأسه ، فسخّر له سمعان القيرواني لمساعدته على حمل الصليب.
في الجلجلة صلب يسوع مع لصين ، ورفض أن يشرب خل ممزوج بمر لتخفيف من الآلام التي يعانيها في حين وضعت فوقه لافتة تتهمه بوصفه "ملك اليهود" ، إستمرّ نزاع يسوع على الصليب ثلاث ساعات ، تفصّل الأناجيل أحداثها ، كالحديث مع اللصين المصلوبين معه وحواره مع أمه ويوحنا الإنجيلي ، وإستهزاء المارة به ، وإقتسام الجند لثيابه ، وأخيرًا مات يسوع ، وتزامن موته بحوادث خارقة في الطبيعة ، إذ أظلمت الشمس ، وإنشق حجاب الهيكل ، كما أعلن قائد المئة إيمانه به.
السيد المسيح على الصليب
وقبل بداية مساء "الجمعة العظيمة" ، وهو بداية سبت اليهود ، أنزل يسوع عن الصليب بناءً على طلب يوسف الرامي ودفن في قبر جديد في بستان الزيتون ، وكانت بعض النسوة اللواتي تبعنه حتى الصليب ينظرن موقع دفنه أيضًا ليكنّ فجر الأحد أولى المبشرات بقيامته حسب رواية العهد الجديد.
إرسال تعليق