تابع : تاريخ مصر في عصور الإحتلال
ثانياً : مصر في العصر الروماني
تابع أباطرة العام الواحد الأربعة
9 - الإمبراطور فسباسيان - Vespasian
68 م – 79 م
مقدمة
يُعتبر الإمبراطور ڤسپاسيان -Vespasia هو الإمبراطور التاسع في ترتيب الأباطرة الرومان ، وقد تولي حكم الإمبراطورية الرومانية في الفترة من سنة 68 م ، وحتي وفاته في سنة 79م . ويُعتبر " فسباسيان " ، أحد أعظم القادة الرومان الذين تولوا قيادة الجيوش الرومانية في العديد من الفتوحات ، والذي بفضل خبرته ، وحِنكته في مجال إدارة شئون الجيش الروماني ، إستطاع تحقيق العديد من الإنتصارات في أكثر من موقعة ، ولعل من أبرز إنجازاته كقائد عسكري مُحنك ، نجاحه الساحق في قمع ثورات اليهود التي إنطلقت في الأسكندرية ، وأورشليم ، حينما أرسله الإمبراطور " نيرون " ، على رأس جيش كبير ، من أجل قمع ثورات اليهود التي إشتعلت في أكثر من مكان إبان الفترة من عام 67 م ، وحتي سنة 68 م ، وقد تمكن " فسباسيان " ، من السيطرة على تلك الثورات المشتعلة في الأسكندرية وأورشليم ، ونجح في إخمادها ، والحد من إنتشارها إلى أنحاء أخرى .
النشأة الأولى للإمبراطور ڤسپاسيان - Vespasian
الإمبراطور ڤسپاسيان
كان فسباسيان إبناً لعائلة فقيرة ، وإلتحق بالجيش بسبب مهارات الكبيرة ، خدم في ألمانيا وبريطانيا، حيث فتح جزيرة وايت ، وعين لاحقاً كقنصل في عام 51م ، ثم أصبح بعد ذلك حاكماً في أفريقيا تحت إمرة نيرون.
في عام 66م ، جعله نيرون مسؤولاً عن حربه ضد اليهود ، وقد كان في يهودا حينما مات الإمبراطور .
وُلِدَ القائد العسكري والإمبراطور " فسباسيان " من أسرة فقيرة ، في قرية سبنية قريبة من ريتي Reate ، وكان جلوسه على العرش ثورة رباعية ، تعاقب على عرش روما خلالها ، ثلاثة من الأباطرة ، كان هو رابعهم ، فقد سبقه في الجلوس على العرش : جالبا ، وأثو ، وفتلليوس ، وكان هو رابع القادة تَرَبُعَاً على عرش الإمبراطورية ، لتبدأ الإمبراطوري الرومانية في عهده - عصراً جديداً - ألا وهو عصر حُكم ( السلالة الفلافية -Flavians ) ، وهاهو ذا جيش من جيوش الولايات ، قد غلب الحرس البريتوري وتوج من يريده إمبراطوراً ، وهاهي ذي أسرة الفلافيين قد خلفت أسرة اليوليو-كلوديين، وعادات الطبقات الوسطى وفضائلها قد حلت في بلاط الإمبراطور محل الإتلاف الأبيقوري الذي كان يتصف به أبناء أغسطس وليفيا الذين نشأوا في الحواضر. ولم ينس فسباسيان قط أصله المتواضع ، ولم يحاول أن يخفيه عن الناس، ولما حاول الأنساب أن يصلوا بنسب أسرته إلى أحد أصحاب هرقل طمعاً منهم في عطائهِ أرغمهم بسخريته على الصمت. وكان يعود بين الفينة والفينة إلى البيت الذي ولد فيه ليستمتع بما فيه من أساليب وأطعمة ريفيه ، ولم يسمح بأن يُغيَر فيهِ شيء قط. وكان يزدري الترف والبطالة، ويأكل طعام الفلاحين ، ويصوم يوماً في كل شهر؛ وأعلن حرباً عواناً على التبذير والإتلاف. وجاءه في يوم ما رجل روماني رشحه لمنصب من المناصب تفوح من رائحة العطر ، فقال له : "لقد كنت أوثر أن تفوح منك رائحة الثوم" ، ورجع عن ترشيحه لذلك المنصب.
ولم يحجب بابه عن الناس، وكان يعيش كما يعيش عامتهم ويتحدث إليهم حديث الرجل الذي لا يترفع عنهم، ويضحك من الفكاهة التي كانت توجه إلى شخصه ، ويسمح لكل إنسان أن يوجه إلى خلقه وسلوكه ما شاء من النقد بكامل حريته ، وكشف مرة عن مؤامرة تُدبر له فعفا عن المتآمرين، وقال إنهم بلهاء لا يدركون عبء المتاعب التي ينوء بها كاهل الحاكم. ولم يُعرف عنه أنه فقد حلمه إلا مرة واحدة.
ذلك أن هلفديوس برسكس - Helvidius Priscus ، بعد أن عاد إلى مجلس الشيوخ من منفاه الذي أخرجه إليه نيرون ، أخذ يطالب بعودة الجمهورية ويطعن على فسبازيان طعناً مراً في السر والعلن، فطلب إليه فسبازيان أن يمتنع حضور جلسات المجلس إذا كان يريد أن يواص هذا السباب، فلما رفض هلفديوس أن يجيبه إلى ما طلب نفاه إلى خارج البلاد ولوث حكمه الصالح بأن أمر بإعدامه. وقد ندم على عملهِ هذا فيما بعد واستمسك في سائر عهدهِ، على حد قول سوتونيوس "بأعظم الصبر وهو يستمع إلى عبارات أصدقائه الصريحة ، وإلى قحة الفلاسفة" ، وكان هؤلاء فلاسفة كلبيين ساخرين أكثر منهم رواقيين؛ كانوا فوضويين متفلسفين يشعرون أن كل حكم أياً كانت صفته عبء على الناس فرضاً، وكانوا يهاجمون كل إمبراطور يجلس على العرش.
صك نقدي للإمبراطور الروماني فسباسيان
الجلوس على عرش الإمبراطورية الرومانية
لقد عُرِفَ " فسباسيان " - كرجلاً مُحنكاً في امور الجيش ، وخبيراً في فنون الحرب والتكيتك ، وقائداً قديراً للجيش الروماني في فترات عصيبة جدأً مرت بها الإمبراطوري الرومانية في عصر الإمبراطور " نيرون " ، الذي أهمل شئون الحكم - داخلياً ، وخارجياً ، وإنصرف عنها نحو ملذاته وشهواته وأهوائه الشخصية ، فظهر في تلك الفترة التي كادت فيها الإمبراطورية أن تُدركها غياهب الضياع ، رجلاً مُتصفاً بالحكمة والشرف ، هو القائد الروماني فسباسيان ، وهذه الأحداث قائمة، يخوض غمار الحرب في بلاد اليهود، ولذلك لم يتعجل في القدوم إلى روما ليشغل المنصب العالي المحفوف بأشد الأخطار الذي رفعه إليهِ جنوده ، وبادر مجلس الشيوخ إلى الإعتراف به.
فلما وصل إليها في أكتوبر عام 70م ، أخذ يعمل بجد على إعادة النظام إلى المجتمع الذي اضطرب في كل ناحية من نواحيهِ ، وسرى جده هذا إلى نفوس أعوانه.
ولما أدرك أن لا بد له أن يعاني نفس المشاق التي عاناها أغسطس ، سار على سيرة ذلك الزعيم وسلك مسلكه في أخلاقه وسياسته، فسالم مجلس الشيوخ ، وأعاد الحكم الدستوري إلى البلاد، وأطلق سراح من حكم عليهم من قبل بمقتضى قانون الخيانة في عهد نيرون وجلبا وأثو وفيتلليوس ، وإستدعى من كان منهم منفياً خارج البلاد ، ثم أعاد تنظيم الجيش وزاد عدد الحرس البريتوري ووسع سلطة رجاله ، وعين قواداً كفاة لقمع الثورات التي شبت نارها في الولايات، واستطاع بعد قليل أن يغلق هيكل يانوس Janus ، رمزاً لعودة السلام وعهداً منه بالمحافظة عليهِ.
وكان قد بلغ الستين من العمر، ولكنه كان محتفظاً ببنيته القوية التي لم يوهنها الإفراط. وكان مفتول العضلات، قوى الأخلاق، ذا رأس عريض أصلع ضخم، وملامح غليظة ولكنها مهيبة ، وعينين صغيرتين حادتين تخترقان المظاهر الخداعة إلى الحقائق المستورة ، ولم يكن يتصف بشيء من شذوذ العباقرة ، ولا يزيد على كونه رجلاً قوي الإرادة شديد الذكاء العملي.
وقد أراد أن يُطَعٌم مجلس الشيوخ بدم قوي جديد، بعد أن أوهنته الحرب الأهلية والقيود على اختلاط الأسر، فعمل على أن يعين رقيباً، ثم جاء إلى رومة بألف من الأسر الممتازة في إيطاليا والولايات القريبة، وسجل أسماءها في سجلات طبقتي الأشراف والفرسان، وملأ ما كان في مجلس الشيوخ من فراغ من بين هذه الأسر الجديدة. وحذا هؤلاء الأشراف الجدد حذوه بعد أن ضرب لهم أحسن الأمثلة، فأصلحوا بسلوكهم الأخلاق الرومانية والمجتمع الروماني. ذلك أن أفراد هاتين الطبقتين لم يكونوا ممن أفسدتهم الثروات الطائلة ، ولم يكونوا ممن طال عليهم العهد ببعدهم عن العمل الشاق وزراعة الأرض ، فلم يستنكفوا أن يقوموا بالواجبات والأعمال الرتيبة في الحياة وتصريف شؤون الحكم.
إنجازات الإمبراطور فسباسيان في كافة مجالات الإصلاح
النهوض بالحالة الإقتصادية للإمبراطورية الرومانية
كان الإمبراطور فسباسيان يتصف بعدة صفات خاصة جعلت منه حاكماً متميزاً ، نذكر حسن تنظيمه لأعماله كحاكم مسئول عن إمبراطورية تضم تحت نفوذها عدد كبير من البلاد ، بجانب تمتعه بحسن الخلق وبالآداب الرقيقة ، وقد خرج من هذه الطبقة الجديدة أولئك الحكام الذين صلحت بهم حكومة روما بعد دوميتيان على مدى جيلاً كاملاً ، وأدرك فسباسيان ما جره من المساوئ استخدام العبيد المحررين منفذين لأوامر الإمبراطور، فإستبدل بمعظمهم رجالاً ممن جاء بهم ومن طبقة رجال الأعمال التي اخذ عددها يزداد في روما ، وإستطاع بمعونة هؤلاء وأولئك أن يرد إلى رومة كرامتها وهو عمل يكاد يكون معجزة من المعجزات.
وقد علم أنه في حاجة إلى 40.000.000.000 سسترس لكي ينتشل البلاد من وهدة الإفلاس ويعيد الثقة إلى خزانة الدولة فعمل على جمع هذا المال بأن فرض الضريبة على كل شيء تقريباً، وزاد خراج الولايات ، وأعاد فرض الخراج على بلاد اليونان ، ورد إلى الدولة الأراضي العامة وأجرها للأفراد ، وباع القصور والضياع الإمبراطورية ، وفرض الإقتصاد الدقيق في نفقات الدولة إلى حد جعل الناس ينددون به ويقولون عنه إنه فلاح بخيل ، وقرر ضريبة على المباول العامة التي كانت تزدان بها روما القديمة كما تزدان بها روما الحديثة.
تزويد الضرائب على الشعب لسد عجز الخزانة العامة
لقد إحتج تيطس إبن فسباسيان الأكبر على تزويد الضريبة المفروضة على الشعب ، ولكن فسباسيان قام بإقناع إبنه بطريقة حكيمة ، تتثمل في أنه أمسك بيده بعض النقود المحصلة منها وقربها من فم الشاب وقال له : " إنظر يا بني ، هل تشم لها رائحة كريهة ؟ ".
ومما يذكر في هذا الصدد - أن المؤرخ سوتونيوس كان قد ذكر أن فسباسيان ضاعف أموال الخزانة العامة ببيع المناصب، وترقية أشد الموظفين شراهة في جباية الضرائب من الولايات، حتى يتخموا جيوبهم بالمال حين يعزلهم فجاءة ، ثم يفحص عن أعمالهم ويصادر ما جمعوه لأنفسهم. على أن هذا المالي الماهر الواسع الحيلة لم يستخدم لنفسه شيئاً مما جمعه، بل استنفذ هذا المال كله في إنعاش الحالة الإقتصادية ، وفي تجميل روما بالمنشآت العامة وفي تقدمها الثقافي.
الإهتمام ببناء روما وإزدهار العمران
وبقي بعدئذٍ على هذا الجندي الخشن أن ينشئ أول نظام للتعليم تقوم به الدولة في التاريخ القديم ، فكان أول ما عمله في هذا الميدان أن أمر بأن تؤدي لطائفة من ذوي الكفاية من مدرسي الآداب وعلوم البلاغة اللاتينية واليونانية أجورهم من خزانة الدولة، وأن يوضف لهم معاش بعد عشرين عاماً منن الخدمة. ولعل هذا الشيخ المتشكك قد أحس بأن للمدرسين نصيباً في تكييف الرأي العام، وبأنهم سيمتدحون الحكومة التي تؤدي إليهم أجر أعمالهم.
ولعل سبباً كهذا هو الذي حدا بهِ إلى إعادة كثير من الهياكل القديمة في الحواضر وفي بلاد الريف نفسها ، فقد أعاد بناء هيكل جوبتير، ويونو، ومنيرفا، وكان جنود فيتلوس قد أحرقوا هذه الهياكل وهدموها فوق روؤوس جنوده. وشاد معبداً لباكس Pax إلهة السلام، وبدأ أشهر المباني الرومانية كلها وهو مبنى الكولسيوم. وغضبت الطبقات العليا حين رأت الضرائب تفرض على ثروتها لإقامة المنشآت للدولة وأداء الأجور للعمال الفقراء، كما أن العمال أنفسهم لم يحمدوا له كثيراً عمله هذا.
لقد قام الإمبراطور فسباسيان ببناء عدد كبير من المعابد في روما ، ولعل من أهم وأشهر إنجازاته في المجال العمراني - بناءه لمسرح الكوليزيوم للترفيه عن الشعب.
ساحة الكوليزيوم – روما
من أعمال الإمبراطور فسباسيان
فسباسيان وسياسة النهضة ما بعد الإنتهاء من حرب أورشليم
ومن أعمال الإمبراطور فسباسيان أيضاً - أنه حشد الشعب لإزالة ما خلفته الحرب الأخيرة من أنقاض، وحمل هو نفسه أول ما حمل منها، ولما أن عرض عليه أحد المخترعين تصميم آلة رافعة تقلل الحاجة إلى العمل الجسدي إلى حد كبير أبى أن يستخدمها وقال : " إني أريد أن أطعم شعبي ".
وكان هذا الخطر المؤقت الذي فرضه فسباسيان على الإختراع إعترافاً منه بمشكلة التعطل الفنية ، وقراراً بالحيلولة دون حدوث ثورة صناعية.
وعم الرخاء الأقليم إلى حد لم يكن له نظير من قبل ، فكانت ثروتها في ذلك الوقت ، إذا قدرت بالنقد على الأقل - ضعفي ما كانت عليه في عهد أغسطس ، ولذلك تحملت أعباء ما زاد من الخراج من غير أن يصيبها ضرر ما.
ثم عين فسباسيان أجريكولا Agricola الرجل القدير حاكماً على بريطانيا ، وعهد إلى تيتس أن يخمد ثورة اليهود ، فإستولى على أورشليم ، ثم عاد إلى روما ، بكل مظاهر الشرف التي تتوج الإسراف في التقتيل، وسار القائد المظفر في موكب نصره ومن ورائه صف طويل من الأسرى وقدر كبير من الغنائم مخترقاً شوارع روما ، وأقيم له قوس نصر شهير لتخليد ذكرى هذا النصر الباهر. وازدهى فسباسيان بإنتصار ولده ، ولكنه ساءه وأقلق باله أن رأى تيتس يأتي معه بأميرة يهودية جميلة تدعى برنيقة ، لتكون خليلة له ، ويرغب أن يتزوجها ، وفي هذه المرة أيضاً حمل الآسر معه آسره.
ولم يكن الإمبراطور يرى سبباً يدعو لأن يتزوج الإنسان خليلته ، وقد ظل هو نفسه بعد وفاة زوجته يعيش مع جارية معتوقة ولم يعن قط بأن يعقد عليها ، ولما ماتت زوجته ، وزع قلبه بين عدة محظيات.
وكان قوي الإعتقاد بأنه يجب أن يستقر على رأي في وراثة العرش قبل وفاته ، لأن هذه هي السبيل الوحيدة لمنع الفوضى ، ووافقه مجلس الشيوخ على هذا الرأي ، ولكنه طلب إليه أن يختار "خير الأخيار" ، ويتبناه ، ولعل المجلس كان يريد منه أن يختار أحد أعضائه. ورد فسباسيان بأنه يرى تيتس خير الأخيار ، وأراد ولده أن ييسر الأمر لأبيه فأبعد عنه برنيس ، واستعاض عنها بالشيوعية الجنسية ، ثم أجلس الإمبراطور ولده معه على العرش وعهد إليهِ قسطاً متزايداً من الحكم.
قام الإمبراطور فسباسيان بزيارة ريتى مرة أخرى ، وشرب وهو في الإقليم السبيني كثيراً من ماء بحيرة كوتليا Cutelia المسهل فأصيب بإسهال شديد. وظل وهو طريح الفراش يستقبل الرسل ويؤدي واجبات منصبه ، وقد إحتفظ إلى آخر لحظة بفكاهته السمجة رغم علمه بأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت فقال : " واأسفاه أظن أني صائر إلى أن أكون إلهاً " ، ووقف على قدميه وهو يكاد أن يُغمى عليهِ ، وأعانه على ذلك بعض أتباعه وقال : " إن الإمبراطور يجب أن يموت واقفاً ".
وبهذا ختم حياة كاملة بلغت التاسعة والستين عاماً ، واختتم حكماً صالحاً عشر سنين.
إرسال تعليق