مقدمة
إن الدولة الأيوبية - هي دولة إسلامية نشأت في مصر - خلال فترة كانت لم تزل فيها الخلافة العباسية قائمة ، وقد إمتدت هذه الدولة ، لتشمل بلاد الشام ، والحجاز ، واليمن ، ووصولاً إلى بلاد النوبة ، وبعض أجزاء من المغرب العربي .
هذا - ويعتبر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، هو المؤسس الفعلي للدولة الأيوبية ، وكان ذلك بعد أن عُيِّن وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله ، ونائبًا عن السلطان نور الدين محمود في مصر ، فعمل على أن تكون كل السلطات تحت يده ، وأصبح هو المتصرف في الأمور ، وأعاد لمصر التبعية للدولة العباسية ، فمنع الدعاء للخليفة الفاطمي ، ودعا للخليفة العباسي ، وأغلق مراكز الشيعة الفاطمية، ونشر المذهب السني.
الموطن الأصلي للأيوبيين في أرمينيا
بعد وفاة نور الدين زنكي توجه صلاح الدين إلى بلاد الشام ، فدخل دمشق ، ثم ضمَّ حِمص ، ثم حلب ، وبذلك أصبح صلاح الدين سلطانًا على مصر والشام.
كانت دولة الأيوبيين قد إمتدت إلى بلاد الحجاز ، حيث قام صلاح الدين الأيوبي بتحصين جنوب فلسطين ، والإستعداد لأي أمر يقوم به أرناط صاحب قلعة الكرك ، والذي كان يدبر للهجوم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة ، وكان صلاح الدين قد إعتنى بميناء القلزم وميناء جدة ، لأن أرناط كان قد عمَّر أسطولا في ميناء أَيْلَة (العقبة) ، وأرسل سفنًا بلغت عِيذاب ، فاستولى صلاح الدين على أيلة.
ثم حدث أن إسترد صلاح الدين بيت المقدس في عام 27 رجب 583 هـ الموافق 2 أكتوبر 1187م ، بعد ثلاثة أشهر من إنتصاره في معركة حطين ، عقب ذلك سقطت في يده كل موانئ الشام، ما عدا مينائي إمارة طرابلس وأنطاكية، وانتهت الحرب الصليبية الثالثة بسقوط عكا بيد الصليبيين ، وتوقيع صلح الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.
وقد توفي صلاح الدين الأيوبي في نحو العام 589 هـ ، وذلك - بعد أن قسم دولته بين أولاده وأخيه العادل ، ولكنهم تناحروا فيما بينهم ، وظل بعضهم يقاتل بعضًا في ظروف ، كانت الدولة تحتاج فيها إلى تجميع القوى ضد الصليبيين.
بعد وفاة العادل ، تفرقت المملكة ، وتقسٌمت بين أبنائه الثلاثة الكامل محمد على حكم مصر ، والمعظم عيسى على دمشق وما حولها ، والأشرف موسى على باقي الشام ، لم يكد يتوفى العادل أبو بكر حتى انهال الصليبيون على الشام ومصر - وخصوصًا - مصر في ثلاث حملات صليبية متتابعة جعلت الكامل محمد على أن يتنازل طواعية عن بيت المقدس للملك فريدريك الثاني سنة 625 هـ الموافق 1228م.
وقد حدث أن إختلف الأشرف موسى مع المعظم عيسى على حدود النفوذ في الشام والجزيرة ووقعت بينهما الكثير من المشاكل والإضطرابات ، كرٌست الفتنة ، وعمٌقت أسباب الخلاف ، ومَهٌدت لمزيد من التخبط ، وفتحت طريق سقوط الدولة.
وقد وُلِّي بعد وفاة الكامل محمد أخوه الصالح أيوب ، وذلك سنة 637 هـ ، والذي إسترد بيت المقدس ودمشق وعسقلان بعد تحالفه مع القوات الخوارزمية الهاربة من الغزو المغولي. في آخر حياة الصالح أيوب هجمت الحملة الصليبية السابعة على مدينة دمياط يقودها لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647 هـ ، فرابط الصالح أيوب بالمنصورة ، وهناك أصيب بمرض شديد تفاقم عليه حتى مات ، فأخفت جاريته أم خليل الملقبة بشجر الدر خبر موته ، وأرسلت لولده الأمير توران شاه وكان بالشام ، فقاد الجيوش المصرية ، وحقق إنتصارًا كبيرًا على الصليبيين ، وأسر ملكهم لويس التاسع ، لما حقق توران شاه إنتصاره على الصليبيين ، إستدار إلى زوجة أبيه ، وباقي قادة الجيش ، وكانوا جميعًا من المماليك البحرية ، وخطط للتخلص منهم وعزلهم ، جعلت هذه الأمور شجرة الدر تتآمر مع المماليك على قتل توران شاه ، فهاجموه في ليلة 28 محرم 648 هـ الموافق 2 مايو 1250م ، وقتلوه ، وبذلك انتهت الدولة الأيوبية.
تحدث المؤرخون عن النسب الأيوبي وإختلفوا حول هذا النسب ، ولكنهم اتفقوا على أن جد الأيوبيين هو الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شادي (أو شاذي) بن مروان. كتب كل من ابن الأثير وأبو شامة وإبن العديم وإبن خلكان ، وغيرهم عن نسب الأيوبيين ، ولكنهم لم يجمعوا على رأي واحد ، ولم يبتوا نهائيًا في النسب الأيوبي حتى المعاصرين منهم، فمنهم من قال بأنهم أكراد ، ومن قال أنهم عرب أمويون ، ومن قال أنهم عرب ينتسبون إلى علي بن أحمد المري ، ولكن لم يثبت بأن أحد من الأيوبيين نسب نفسه إلى الأكراد فمنهم من أيد الرأي الثاني وبعضهم أيد الرأي الثالث ، وقد نفوا جميعهم الرأي الأول.
هذا - ويرجع نسب الأيوبيين إلى أيوب بن شاذي بن مروان من أهل مدينة دوين في أرمينيا ، وقد إختلف المؤرخون في نسب العائلة الأيوبية ، حيث أورد إبن الأثير في تاريخه أن أيوب بن شاذي بن مروان يرجع إلى الأكراد الروادية ، وهم فخذ من الهذبانية ، ويذكر أحمد بن خلكان ما نصه : { قال لي رجل فقيه عارف بما يقول، وهو من أهل دوين ، إن على باب دوين قرية يُقال لها "أجدانقان" وجميع أهلها أكراد روادية ، وكان شاذي قد أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد - ومن هناك - نزلوا تكريت ، ومات شاذي بها وعلى قبره قبة داخل البلد ، بينما يرفض بعض ملوك الأيوبيين هذا النسب وقالوا : " إنما نحن عرب ، نزلنا عند الأكراد وتزوجنا منهم " } .
هذا - وقد إختلف الأيوبيون أنفسهم - في ما يخص نسبهم ، فالملك المعز إسماعيل الأيوبي صاحب اليمن أرجع نسب بني أيوب إلى بني أمية ، وأن نسبهم يرجع إلى أيوب بن شادي (أو شاذي) بن مروان بن الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وحين بلغ ذلك الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب قال : " كذب إسماعيل ما نحن من بني أمية أصلاً " ، أما الأيوبيون ملوك دمشق فقد أثبتوا نسبهم إلى بني مرة بن عوف من بطون غطفان وقد أحضر هذا النسب على المعظم عيسى بن أحمد صاحب دمشق وأسمعه ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود.
شرح الحسن بن داود الأيوبي في كتابه : "الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية " ما قيل عن نسب أجداده وقطع أنهم ليسوا أكرادًا ، بل نزلوا عندهم فنسبوا إليهم - وقال: "ولم أرَ أحداً ممن أدركتُه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا النسب".
كما أن الحسن بن داود قد رجَّح في كتابه صحة شجرة النسب التي وضعها الحسن بن غريب، والتي فيها نسبة العائلة إلى أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي محمد بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هُدْبة بن الحُصَين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مُرَّة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نَشبَة بن غيظ بن مرة بن عوف بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش.
تأسيس الدولة الأيوبية
خريطة توضح البداية الأولى لميلاد الدولة الأيوبية
تتفق المصادر التاريخية أن شادي بن مروان أعقب ولدين ، الأول : الملك الأفضل نجم الدين أبي الفضل أيوب والد الملوك ، والثاني : الملك المنصور أسد الدين أبي الحارث شيركوه ، وقد إتصل بحاكم العراق السلجوقي مجاهد الدين بهروز، وذلك في عهد السلطان السلجوقي مسعود بن ملكشاه ، فأقطعه قلعة تكريت القائمة بين بغداد والموصل، وهي بلدة كردية وسكانها أكراد.
لما مات شادي خلفه في حكم قلعة تكريت ابنه نجم الدين أيوب الذي أُتيحت له الظروف خدمة عماد الدين زنكي أمير الموصل وحلب، وذلك عندما انهزم زنكي في الحرب التي خاضها ضد الخليفة العباسي المسترشد بالله سنة 526 هـ الموافق 1132م ، وفر مع جيوشه إلى مدينة تكريت ملتجئين إلى نجم الدين أيوب ، فأكرمهم وآواهم.
وحدث أن تنكر مجاهد الدين بهروز لنجم الدين أيوب ، وقد تعددت أسباب هذا التنكر ، وكانت النتيجة أن أرسل إليه بهروز يأمره بتسليم القلعة إلى عامل آخر ، والخروج مع أهله من تكريت. غادر نجم الدين قلعة تكريت ومعه أخوه أسد الدين متوجهًا نحو الموصل، فأحسن عماد الدين زنكي وفادتهما ، وبالغ في اكرامهما وأقطعهما اقطاعات جليله وكان ذلك عام 532 هـ الموافق 1138م ، ويقال أنه في نفس الليلة التي خرج فيها نجم الدين أيوب من قلعة تكريت ولد له يوسف (صلاح الدين) الذي تنسب له الدولة الأيوبية.
قابل نجم الدين وأخوه أسد الدين شيركوه ، مكرمة عماد الدين ، بإنخراطهما في جيشه، وأخلصا له وأحرزا إنتصارات عديده ، ماحدا بعماد الدين بتعيين بنجم الدين أيوب حاكمًا ، على بعلبك بعد إستيلائه عليها سنة 532 هـ - والموافق لعام 1139م .
بعد مقتل عماد الدين زنكي انقسم ملكه بين ولديه سيف الدين غازي في الموصل ونور الدين محمود في حلب، فاستغل ذلك صاحب دمشق مجيد الدين أبق بن جمال الدين بن تاج الملوك، فحاول استرجاع بعلبك، فسلمه نجم الدين أيوب مقابل تعهده بإعطائه إقطاعًا جليلًا، ثم نزل دمشق وتسلم الإقطاع ، وهو عبارة عن عشرة قرى بجوار دمشق، بالإضافة لدار يسكن بها في دمشق، ثم أصبح لنجم الدين مركز مرموق في دمشق حتى أصبح قائدًا لقواتها ، وإستمر يشغل هذا المنصب حتى إستولى نور الدين على دمشق عام 549 هـ تاموافق 1154م.
أما أسد الدين شيركوه - فقد بقي في خدمة نور الدين محمود بحلب ، حتى أصبح قائدًا لقوات حلب ، ثم قام نور الدين بتسيير جيش بقيادة شيركوه ، من أجل الإستيلاء على دمشق عام 547 هـ الموافق 1154م، فوقف نجم الدين أيوب على رأس جيش حاكم دمشق مجيد الدين آبق. قام نور الدين محمود بالطلب من شيركوه بمكاتبة أخيه نجم الدين وحثه على المساعدة، فطلب نجم الدين الحصول على المزيد من الإقطاعات في دمشق، فوعد نور الدين بتنفيذ ما طلب ، وإستمرت المفاوضة ستة أيام ، إنتهت بتسليم دمشق ، فعين نجم الدين حاكمًا على دمشق.
ولقد كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين ، مقرًا للدولة الفاطمية ، ولم يكن للخليفة الفاطمي في ذلك الوقت سوى الدعاء له على المنابر ، وكانت الأمور كلها بيد الوزراء ، وكانت هذه الفترة من أسوأ الفترات السياسية في تاريخ مصر الإسلامي ، فقد أصبح الخليفة الفاطمي يشارك في مؤامرات و دسائس ضد وزرائه للتخلص منهم وذلك لضعفه وعدم قدرته علي عزلهم بنفسه ، فوُجد أن كل طرف كان يتآمر ضد كل الأطراف ، ولا يبالي أي طرف من أن يتقوى بالصليبيين ضد منافسه ، مما أدى إلي تحريك أطماع الصليبيين في الإستيلاء على مصر ، فعندما فشل الصليبيون على الجهة الشمالية (الشام) ، إتجهوا صوب الجنوب (مصر) ، وإستغل الملك الصليبي بالدوين الثالث حالة مصر الضعيفة ، وكشر عن أنيابه مهددًا بغزو الديار المصرية ، ولم يرجع عن تهديده إلا بعد أن وعده الوزير إبن رُزيك - بإسم الخليفة الفاطمي العاضد - بجزية سنوية مقدارها مئة وستين ألف دينار ، لما مات بلدوين الثالث تولى حكم مملكة بيت المقدس بعده أخوه أمالريك الأول بدون أن تقوم القاهرة بدفع شيء من الجزية، وكان تولي أمالريك حكم بيت المقدس بداية مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات بين الصليبيين ومصر، حيث أدرك أن سيطرة نور الدين محمود على حلب وحماة وحمص ودمشق قد حالت دون توسع الصليبيين في شمال بلاد الشام ، فأصبح الطريق مفتوحًا أمامهم لمصر.
وفي خلال هذه الفترة ، تحركت رغبات نور الدين محمود في ضم مصر إلي الشام في جبهة واحدة ضد الصليبيين ، وكان نور الدين قد نجح في توحيد معظم مدن وإمارات الشام تحت إمرته، هذا بالإضافة لتلقيه العهد من الخليفة العباسي عام 549 هـ بإطلاق يده في بلاد الشام ومصر ، وقد كان الوزير طلائع بن زريك الأرمني هو الحاكم الفعلي لمصر زمن الخليفة الفاطمي الفائز بدين الله، ولكنه قتل وابنه فحل محله في الوزارة شارو الذي كان حاكمًا للصعيد، ظهر في تلك الفترة ضرغام أبو الأشبال أمير فرقة من الجند المغاربة تخدم في مصر كمنافس فعلي للوزير شاور علي كرسي الوزارة زمن الخليفة العاضد لدين الله. استطاع ضرغام خلع شاور من وزارة مصر بمساعدة الخليفة الفاطمي، فوجد أمالريك الفرصة سانحةً أمامه -+ليتخذ من مسألة الجزية ذريعة لهجوم يشنه على الحدود المصرية ، ثم عبر برزخ السويس سنة 558 هـ الموافق 1163م ، ووصل إلى مصب دمياط، فتصدى له ضرغام، وقطع بعض جسور النيل ، وشكلت مياه الفيضانات وأوحال الدلتا عائقًا أمام أمالريك وجعله يتراجع إلى فلسطين. ما كان من شاور إلا أن هرب إلي الشام واستنجد بنور الدين محمود ليعيد إليه الوزارة، ووعده بثلث خراج إيراد مصر ، وأن يمنح جنده إقطاعات يقيمون فيها في مصر. بعد فترة من التردد وافق نور الدين علي مساعدة شاور لإستعادة الوزارة في مصر شريطة أن يعترف شاور بسيادة نور الدين علي مصر، وكان نور الدين يرغب في تحويل مصر إلي المذهب السني وتوحيد مصر والشام ضد الصليبيين.
وقد أرسل نور الدين قائده أسد الدين شيركوه علي رأس جيش إلي مصر ، واصطحب أسد الدين معه ابن اخيه صلاح الدين الأيوبي الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره آنذاك، لما علم ضرغام بأنباء شاور ونور الدين أرسل يستنجد بالصليبيين، فلم يتردد أمالريك بمساندته بعد أن تعهد ضرغام له أن يعقد معه معاهدة تصبح مصر بمقتضاها تابعة للصليبيين مقابل مساعدته ، تقابل جيش شيركوه وجيش ضرغام عند القاهرة، واستطاع شيركوه أن يهزم قوات ضرغام ويقتله ويعيد شاور إلي الوزارة، و لكن شاور نكث بعهده ورفض الاعتراف بولائه لنور الدين محمود، وطلب من شيركوه أن يعود إلي الشام ، ولكن شيركوه توجه بجيشه إلي مدينة بلبيس في دلتا مصر وسيطر عليها وتحصن بها ضد شاور.
وقد حدث أن أرسل شاور إلي أمالريك ملك بيت المقدس الصليبي ليساعده في التخلص من أسد الدين شيركوه ، وكان سقوط عسقلان في غزة بوابة مصر الشرقية في يد الصليبيين قد أغري أمالريك ملك بيت المقدس بالاستيلاء علي مصر لتصبح أحد الممالك الصليبية ، فوافق أمالريك وسار بجيش إلي مصر وانضم لقوات شاور وتقدم الاثنان لحصار مدينة بلبيس التي كان شاور معسكرًا بها ، وإنضمت إليه بعض القوات من عرب كنانة بالشرقية ، واستمر حصار شاور والفرنج لشيركوه مدة ثلاثة أشهر من مستهل شهر رمضان إلى ذي الحجة، وفي النهاية قبل شيركوه الخروج من مصر مقابل خروج الصليبيين أيضًا.
ولكن شيركوه الذي رأي ضعف مصر وهوان الخلافة الفاطمية ، عاد يلح علي نور الدين ليرسل حملة أخرى إلي مصر ، فوافق نور الدين ، وبعد سنتين أي في عام 562 هـ الموافق 1167م ، أرسل نور الدين جيشًا آخر إلي مصر بقيادة شيركوه ومعه صلاح الدين مرة أخرى.
وقد حدث أن إستنجد شاور أمالريك ملك بيت المقدس ، الذي خرج على رأس جيش من مملكته، ولكن شيركوه كان الأسرع ووصل إلي القاهرة قبل أن يعترضه جيش أمالريك ، أقام شيركوه معسكره في الجيزة، بينما سار أمالريك عن طريق فاقوس وبلبيس حتى وصل إلى مكان بين القاهرة والفسطاط، حيث خرج شاور لإستقباله ، وتم عقد معاهدة بين الصليبيين وشاور، أقرها الخليفة الطفل العاضد يتقاضى بموجبها أمالريك مبلغًا كبيرًا من المال يقدر بحوالي مئتي ألف دينار. هاجم شاور والجيش الصليبي قوات شيركوه الذي تقهقر إلى موضع قريب من مدينة المنيا الحالية، ولكن القوات الصليبية لحقت به هناك ولحقت الهزيمة بالجيش الصليبي، وعرفت هذه المعركة باسم معركة البابين ، بعد ذلك سار شيركوه ، صوب الفيوم ، ومنها إلى الإسكندرية، لكن قوات أمالريك وبعض الأساطيل المعاونة للصليبيين فرضت حصارًا بريًا وبحريًا على الإسكندرية استطاع شيركوه أن ينسل بجيشه خارج الأسكندرية وترك حامية مكونة من ألف رجل يقودها صلاح الدين الأيوبي لتواجه حصار جيش أمالريك وشاور، دام حصار الاسكندرية والحامية أربعة أشهر واضطر شيركوه أن يدخل في مفاوضات مع أمالريك لفك الحصار، وتم الاتفاق علي أن ينسحب شيركوه بجيشه من مصر ، وأن تُدفع ضرائب تبلغ مئة ألف دينار من مصر لملك بيت المقدس ، في مقابل جلاء القوات الصليبية عن مصر.
وقد سار أمالريك بجيشه إلي مصر عام 1168م بدعوي أن شاور لم يدفع له الضرائب المتفق عليها ، وهزم الجيش الفاطمي بقيادة شاور في بلبيس ، وسار إلي القاهرة، إستنجد شاور بنور الدين محمود لينقذه من الصليبيين ، فقرر نور الدين إرسال حملة ثالثة بقيادة شيركوه وصلاح الدين.
عندما سار جيش الصليبيين بقيادة أمالريك لاعتراض جيش شيركوه ، إستطاع شيركوه بقواته أن يفلت منهم وأن يدخل القاهرة في عام 564 هـ الموافق 6 من ديسمبر 1168م بدون مقاومة ، فقام أمالريك بسحب جيشه من مصر وعاد إلي بيت المقدس ، أصبح شيركوه الحاكم الحقيقي لمصر ، ولكنه لم يعزل الخليفة الفاطمي ، فقد كان الخليفة الفاطمي مريضًا مرضًا لا يرجي شفاؤه ، فآثر شيركوه أن يتركه يموت بسلام ، بينما قام صلاح الدين بالقبض على الوزير شاور على مقربة من قبر الإمام الشافعي بالقاهرة ، ولما بلغ الخليفة الفاطمي العاضد ذلك طلب منه إرسال رأسه فقتله وأرسل رأسه إليه.
بعد تعيينه بشهرين وزيرًا علي مصر ـ توفي أسد الدين شيركوه ، وخلفه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي علي وزارة مصر في 25 جمادي الآخر 564 هـ الموافق 26 مارس عام 1169م ، وكان عمر صلاح الدين وقتها لا يزيد عن اثنين و ثلاثين عامًا، مع أن صلاح الدين اعتلى كرسي الوزارة الفاطمية ، إلا أن الفاطميين ، إختاروه لهذا المنصب بسبب حداثة سنة وما ظنوه من قصور خبرته السياسية ، وكان العاضد ظن أنه إذا ولي صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال ، كان في ولايته مستضعفاً يحكم عليه ولا يجسر على المخالفة ، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه ، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين ، وتعود البلاد إليه ، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين.
أوجست مملكة بيت المقدس خيفة من تنامي نفوذ نور الدين زنكي في مصر، فقرروا الاستنجاد بملوك أوروبا لاحباط أطماع نور الدين، لكن دعوتهم لم تلق استجابة منهم لانشغال غالبيتهم بمسائل تتعلق بدولهم، فتوجهوا للإمبراطو البيزنطي منويل الذي رحب بمد يد المعاونة ، فتوجهت قوات مملكة بيت المقدس إلى دمياط يعاونهم أسطول بيزنطي مزود بالمؤن والعتاد الحربي ، فوصلوا إليها عام 565 هـ الموافق 1169م. أرسل صلاح الدين جنده لدمياط بقيادة ابن أخيه تقي الدين عمر وخاله شهاب الدين محمود ، بالإضافة لفرقة من الجنود أرسل بها نور الدين من الشام ـ لم يتيسر للصليبيين تحقيق غرض حملتهم ، وقام نور الدين بمهاجمة حصن الكرك ، فأسرع الصليبيون في رفع الحصار عن دمياط.
ولقد كان أحد أهم نتائج فشل الحملة الصليبية توطئة حكم صلاح الدين لمصر ، فطلب من نور الدين أن يرسل أباه وأقاربه إليه ، وكان ذلك عام 1170م ، ومالبث أن أسند إلى أبيه بيت المال وأقطع إخوته بعض الأراضي. في عام 1171م أرسل نور الدين محمود إلي صلاح الدين يأمره أن يقوم بتحويل البلاد إلي المذهب السني والدعاء للخليفة العباسي في خطبة الجمعة بدلاً من الخليفة الفاطمي ، ولكن صلاح الدين استمهله حتي يتوفي الخليفة العاضد المشرف علي الموت ، ولكن نور الدين رفض التأجيل وخشي أن يكون صلاح الدين يماطل فهدده أنه سوف يسير إليه بحملة ، وأرسل إمامًا سنيًا من الموصل إلي مصر، فاعتلي المنبر في مسجد القاهرة ودعا للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة الفاطمي.
ثم حدث أن توفي الخليفة العاضد في 10 محرم عام 567 هـ الموافق 1171م ، وهو الخليفة الفاطمي الرابع عشر ، وآخر الخلفاء الفاطميين ، وإنتهت بموته الخلافة الفاطمية في مصر ، والتي إستمرت حوالي 200 عام.
بداية حكم صلاح الدين الأيوبي لمصر
الصورة الأًصلية لصلاح الدين الأيوبي
ما إن تقلد صلاح الدين مقاليد الحكم في مصر ، حتى بدأت الوحشة بينه وبين نور الدين محمود ، إعتقد نور الدين أن صلاح الدين يعمل للإستقلال بحكم مصر دونه ، ومما زاد في الأمر شكًا أن صلاح الدين بعد سقوط الدولة الفاطمية ، بدأ في تثبيت أقدامه في مصر ، فأخذ في إنشاء القلاع والتفكير ببناء سور حول المدن الأربعة التي تألفت منها مدينة الفسطاط ، وعزز مقام أقاربه وأبناء عشيرته في الجيش والحكومة، وأزال رجالات الدولة ممن لم يكن يثق بهم، بالإضافة لاختلاف وجهات النظر السياسية بين الرجلين ، فقد رأى نور الدين في بلاد الشام أنها بمنزلة الأرض الرئيسية للمعركة ضد الصليبيين ، وتطلع إلى مصر كمصدر للطاقة البشرية الإضافية والواردات المادية التي تسد نفقات الجهاد ، وخطوة تمهيدية للقضاء على مملكة بيت المقدس وهو لم يناضل في ضمها إلا من أجل هذه الغاية - أمَّا صلاح الدين الأيوبي - فقد كان مقتنعًا نتيجة للصراع بين القوى الثلاث الإسلامية والصليبية والبيزنطية حول مصر بأن هذا البلد يشكل في الوقت الراهن مركز الثقل في العمليات العسكرية.
قرر نور الدين المسير إلى مصر وإخضاعها تحت حكمه في مناسبتين :
الأولى : لما خرج صلاح الدين لمهاجمة حصن الشوبك بعد إستيلاء الصليبيين عليه ، وعرقلة سير التجارة بين مصر والشام ، وبعد حصار لم يدم طويلاً ، لم تستطع الحامية الصليبية في الثبات والمقاومة ، فأعطى صلاح الدين أهل الحصن مهلة من عشرة أيام للتسليم ، لكن صلاح الدين لم يلبث أن ينال من الحصن حتى علم بسير نور الدين إليه لمساعدته ، وعندئذٍ خشي صلاح الدين أن يقبض عليه نور الدين إذا رآه ، فأسرع بالانسحاب والعودة إلى مصر، معتذرًا بإختلال الأحوال في مصر وأنه يخاف عليها إذا بعد عنها - إستاء نور الدين من مسلك نائبه وعظم عليه ذلك ولم يقبل عذره، ورأى فيه دليلًا صارخًا على تهربه منه ، وظن أن صلاح الدين قد إنفصل نهائيًا عنه ، فقرر الزحف إلى مصر ، والإستيلاء عليها ، الأمر الذي أخاف صلاح الدين ، فعقد اجتماعًا مع أقاربه ، وبعض خاصته وإستشارهم فيما ينبغي أن يُفعل ، أشار نجم الدين أيوب على ولده أن يكتب إلى نور الدين بأنه خاضع له ومنفذ لأمره ، فعمل صلاح الدين بنصيحة أبيه ، وأرسل إلى نور الدين هدايا ثمينة من الحيوانات النادرة والجواهر ، والأقمشة والمصنوعات والعطر.
في أعقاب ذلك ، تسلم نور الدين هدية صلاح الدين ومعها كتاب الولاء والطاعة، ولم يعد هناك من حجة يبرر بها الزنكي حملته على مصر.
الثانية : أراد نور الدين تجربة صلاح الدين فكتب إليه عام 569 هـ الموافق 1173م أن يخرج لغزو الفرنجة في الكرك ، على أن يسير هو أيضًا إلى هناك، فأيهما سبق صاحبه أقام إلى أن يوافيه الآخر ، ذهب صلاح الدين بجيشه إلى الكرك وحاصرها، ولكنه ما كاد يعلم باقتراب نور الدين حتى رفع الحصار عن المدينة وعاد إلى مصر، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري إلى نور الدين يعتذر عنه بأنه اضطر إلى العودة لمرض والده وأنه يخاف أن يحدث عليه حادث الموت ، والذي كان يُعاني سكرات النزاع ، وقد توفي قبل وصول صلاح الدين إلى القاهرة.
بإعتذار صلاح الدين ، وأيقن هذه المرة أن نائبه قد خرج عليه ، وخلع طاعته ، فزاد غضبه ، ونفذ صبره ، وأقسم لينتقمن منه أشنع إنتقام ، فصمم نهائيًا على فتح مصر والقيام بعمل حاسم ضد صلاح الدين ، لكن القدر كان مع صلاح الدين ، فما كاد نور الدين يستعد للقيام بحملته على مصر حتى وافته المنية عام 569 هـ الموافق 1174 م ، وفي هذا التاريخ كانت بداية الدولة الأيوبية.
إرسال تعليق