الملوك المعاصرون للخدمة
( بداية حكم الولاة في ظل الحكم العثماني )
محمد على باشا
مؤسس حكم الأسرة العلوية في مصر
( فترة الحكم الأولى )
1805 م – 1848م
محمد على باشا
مقدمة
هو محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي .
يلقب بالعزيز - أو عزيز مصر .
وهو مؤسس الأسرة العلوية التي حكمت مصر منذ عهده في سنة 1805 م ، وحتي عهد الملك فاروق آخر ملوك الأسرة العلوية ، والذي إنتهى عهد حكمه بإنقلاب عسكري ، وقع في عام 1952م ، إنتهى إلى سقوط الملكية وقيام الجمهورية في مصر.
وقد إستقل محمد على بحكم مصر ما بين عامي 1805 إلى 1848 م ، ويشيع وصفه بأنه "مؤسس مصر الحديثة" ، وهي مقولة كان هو نفسه أول من روج لها ، وإستمرت بعده بشكل منظم وملفت.
ولقد إستطاع أن يعتلي عرش مصر عام 1805 م ـ بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها ، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا ، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة ، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين.
المولد والنشأة
ولد محمد على باشا في إحدى مدن اليونان ، وتحديداً في مدينة قولة ، في عام 1769م . وكان أبوه إبراهيم أغا ، خفير الطرق ببلدة قولة ، وكان يعمل في ذات الوقت تاجراً ، حيث كان يعمل في تجارة التبغ ، ولما كبر محمد على ، كان أبوه قد مات ، ومن بعدع ، ماتت أمه ، وكان محمد لم يزل في التاسعة من العمر ، وليس لديه أشقاء أو شقيقات نظراً لوفاتهم جميعاً لمرض غير معلوم سببه إلى الآن ، فقام عمه بتربيته ، ولما كبر ، إنضم إلى الخدمة العسكري في الجيش العثماني .
الإلتحاق بالخدمة العسكرية والتدرج في مناصبها
في أوائل عام 1806م، أنفذ محمد علي جيشًا لمحاربة المماليك في الصعيد بقيادة حسن باشا قائد الفرقة الألبانية ، الذي اشتبك مع قوات محمد بك الألفي الأكثر عددًا في الفيوم، وانهزمت قوات محمد علي مما أدى إلى انسحابها إلى جنوب الجيزة، ثم فرّت جنوبًا إلى بني سويف من أمام قوات محمد بك الألفي الزاحفة نحو الجيزة. تزامن ذلك مع زحف قوات إبراهيم بك الكبير وعثمان بك البرديسي من أسيوط لاحتلال المنيا، التي كانت بها حامية تابعة لمحمد علي، إلا أن قوات حسن باشا دعّمت الحامية وأوقفت زحف قوات المماليك إلى المنيا.
الوصول إلى منصب الولاية على مصر وبداية الحكم
بعد أن بايعه أعيان الشعب في دار المحكمة ليكون واليًا على مصر في 17 مايو سنة 1805م ، والذي أقره فيها الفرمان السلطاني الصادر في 9 يوليو من نفس العام ، كان على محمد علي أن يواجه الخطر الأكبر المحدق به ، ألا وهو المماليك بزعامة محمد بك الألفي الذي كان المفضل لدى الإنجليز منذ أن ساندهم عندما أخرجوا الفرنسيين من مصر ، ولم يمض سوى 3 أشهر ، حتى قرر المماليك مهاجمة القاهرة، وراسلوا بعض رؤساء الجند لينضموا إليهم عند مهاجمة المدينة.
وقد علم محمد علي بما يدبر له ، فطالب من رؤساء الجند مجاراتهم وإستدراجهم لدخول المدينة ، وفي يوم الإحتفال بوفاء النيل عام 1805م ، هاجم ألف من المماليك القاهرة ، ليقعوا في الفخ الذي نصبه محمد علي لهم ، وأوقع بهم خسائر فادحة، مما إضطرهم للإنسحاب. حينئذٍ ، استغل محمد علي الفرصة ، وطاردهم حتى أجلاهم عن الجيزة ، فتقهقروا إلى الصعيد الذي كان ما زال في أيديهم.
تمثال محمد على باشا بميدان المنشية بالأسكندرية
في تلك الأثناء ، صدر فرمان سلطاني بعزل محمد علي من ولاية مصر ، وتوليته ولاية سلانيك ، أظهر محمد على الإمتثال للأمر وإستعداده للرحيل ، إلا أنه تحجج بأن الجند يرفضون رحيله قبل سداد الرواتب المتأخرة - في الوقت نفسه - لجأ إلى عمر مكرم نقيب الأشراف الذي كان له دور في توليته الحكم ليشفع له عند السلطان لإيقاف الفرمان.
فأرسل علماء مصر وأشرافها رسالة للسلطان ، يذكرون فيها محاسن محمد علي وما كان له من يد في دحر المماليك ، ويلتمسون منه إبقائه واليًا على مصر.
فقبلت الآستانة ذلك على أن يؤدي محمد علي 4,000 كيس ، ويرسل إبنه إبراهيم رهينة في الآستانة إلى أن يدفع هذا الفرض.
بعد أن توجه محمد بك الألفي إلى الجيزة ، لم يهاجم القاهرة وإنما توجه إلى دمنهور بناءً على إتفاق سري بينه وبين حلفائه الإنجليز ، ليتخذها مركزًا لتجميع قواته، فحاصرها إلا أن أهالي المدينة وحاميتها ، إستبسلوا في الدفاع عنها.
وعندما بلغ محمد علي أنباء حصار دمنهور ، أرسل جزءًا من جيشه لمواجهة قوات محمد بك الألفي ، فوصلت إلى الرحمانية في أواخر شهر يوليو من عام 1806، وإشتبكوا مع قوات الألفي بالنجيلة وهي قرية بالقرب من الرحمانية ، وتعرض جيش محمد علي للمرة الثانية للهزيمة ، وانسحبوا إلى منوف.
عاد الألفي لحصار دمنهور ، إلا أنه لم يبلغ منها منالاً، فقد طال الحصار فتألّب عليه جنوده متذمرين ، مما اضطره لفك الحصار والانسحاب إلى الصعيد ، وسرعان ما جاءت محمد علي أنباء وفاة عثمان بك البرديسي أحد أمراء مماليك الصعيد، ثم أنباء وفاة الألفي أثناء انسحابه ، فإغتبط لذلك.
وسرعان ما جرد جيشًا وتولى قيادته لمحاربة المماليك في الصعيد ، إستطاع جيش محمد علي أن يهزم المماليك في أسيوط ، ويجليهم عنها ، وإتخذ منها مقرًا لمعسكره حيث جاءته أنباء الحملة الإنجليزية.
وقائع الحملة الفرنسية بفيادة فريزر
في إطار الحرب الإنجليزية العثمانية، وجهت إنجلترا حملة من 5,000 جندي بقيادة الفريق أول فريزر ، لإحتلال الإسكندرية لتأمين قاعدة عمليات ضد الدولة العثمانية في البحر المتوسط ، كجزء من إستراتيجية أكبر ضد التحالف الفرنسي العثماني.
أنزلت الحملة جنودها في شاطئ العجمي في 17 مارس سنة 1807، ثم زحفت القوات لاحتلال الإسكندرية ، التي سلمها محافظ المدينة "أمين آغا" ، إلى القوات البريطانية دون مقاومة ، فدخلوها في 21 مارس ، وهناك بلغتهم أنباء وفاة حليفهم الألفي ، فأرسل فريزر إلى خلفاء الألفي في قيادة المماليك ليوافوه بقواتهم إلى الإسكندرية. وفي الوقت ذاته، راسلهم محمد علي ليهادنهم ، إلا أنهم خشوا أن يتهموا بالخيانة، فقرروا الانضمام لقوات محمد علي ، وإن كانوا يضمرون أن يسوّفوا حتى تتضح نتائج الحملة ليقرروا مع من ينضموا.
وقد قرر فريزر إحتلال رشيد والرحمانية ، لقطع طريق التعزيزات التي قد تأتي إلى المدينة عبر نهر النيل.
القائد الفرنسي ألكسندر فريزر
وفي 31 مارس ، أرسل فريزر 1,500 جندي بقيادة اللواء "باتريك ويشوب" لاحتلال رشيد ، فإتّفقت حامية المدينة بقيادة "علي بك السلانكلي" والأهالي على استدراج الإنجليز لدخول المدينة دون مقاومة ، حتى ما أن دخلوا شوارعها الضيقة، حتى انهالت النار عليهم من الشبابيك وأسقف المنازل ، وانسحب من نجا منهم إلى أبو قير والإسكندرية ، بعد أن خسر الإنجليز في تلك الواقعة نحو 185 قتيل و300 جريح، إضافة إلى عدد من الأسرى ، وقد أرسلت الحامية الأسرى ورؤوس القتلى إلى القاهرة، وهو ما قوبل بإحتفال كبير في القاهرة.
ولأهمية المدينة، أرسل فريزر في 3 أبريل جيشًا آخر قوامه 2,500 جندي بقيادة الفريق أول ويليام ستيوارت ، ليستأنف الزحف على المدينة ، فضرب عليها في 7 أبريل حصارًا وضربها بالمدافع ، وأرسل ستيوارت قوة فاحتلت قرية "الحمّاد" لتطويق رشيد، ومنع وصول الإمدادات للمدينة.
وفي 12 أبريل ، عاد محمد علي من الصعيد ، واطلع على الأخبار وقرر إرسال جيش من 4,000 من المشاة و1,500 من الفرسان بقيادة نائبه "طبوز أوغلي"، لقتال الإنجليز. صمدت المدينة لمدة 13 يومًا ،حتى وصل الجيش المصري في 20 أبريل ، مما اضطر ستيوارت إلى الإنسحاب ، كما أرسل رسولاً إلى النقيب "ماكلويد" قائد القوة التي احتلّت الحمّاد يأمره بالإنسحاب ، إلا أنه لم يتمكن من الوصول. وفي اليوم التالي، حوصرت القوة المؤلفة من 733 جنديًا في الحمّاد ، بعد مقاومة عنيفة، وقعت القوة بين قتيل وأسير.
فعاد ستيوارت إلى الإسكندرية ببقية قواته ، بعد أن فقد أكثر من 900 من رجاله بين قتيل وجريح وأسير.
تابعت قوات محمد علي زحفها نحو الإسكندرية ، وحاصروها.
وفي 14 سبتمبر سنة 1807، تم عقد صلح بعد مفاوضات بين الطرفين، نص على وقف القتال في غضون 10 أيام ، وإطلاق الأسرى الإنجليز ، على أن تخلي القوات الإنجليزية المدينة ، والتي رحلت إلى صقلية في 25 سبتمبر ، وبذلك تخلص محمد علي من واحد من أكبر المخاطر التي كادت تطيح بحكمه في بدايته.
القضاء على رموز المقاومة الشعبية
كان محمد على باشا قد بدأ خطته من أجل التخلص من رموز المقاومة الشعبية في مصر ، بالتخلص من نقيب الأشراف والزعيم الوطني الكبير الشيخ عمر مكرم ، بأن أصدر قرار بفصله من نقابة الأشراف .
عمر مكرم
وذلك على الرغم من المساعدات التي قدمتها الزعامة الشعبية بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم، لمحمد علي بدءً بالمناداة به واليًا ، ثم التشفع له عند السلطان لإبقائه واليًا على مصر ، وبالرغم من الوعود والمنهج الذي اتبعه محمد علي في بداية فترة حكمه مع الزعماء الشعبيين ، بوعده بالحكم بالعدل ورضائه بأن تكون لهم سلطة رقابية عليه، إلا أن ذلك لم يدم ، بمجرد أن بدء الوضع في الإستقرار النسبي داخليًا، بالتخلص من الألفي وفشل حملة فريزر وهزيمة المماليك وإقصائهم إلى جنوب الصعيد، حتى وجد محمد علي أنه لن تطلق يده في الحكم ، حتى يزيح الزعماء الشعبيين.
وقد تزامن ذلك مع انقسام علماء الأزهر حول مسألة من يتولى الإشراف على أوقاف الأزهر بين مؤيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي ومؤيدي الشيخ "محمد الأمير".
وفي شهر يونيو من عام 1809م ، فرض محمد علي ضرائب جديدة على الشعب ، فهاج الناس ، ولجأوا إلى عمر مكرم الذي وقف إلى جوار الشعب وتوعد بتحريك الشعب إلى ثورة عارمة ، ونقل الوشاة الأمر إلى محمد علي.
وقد إستغل محمد علي محاولة عدد من المشايخ والعلماء للتقرب منه وغيرة بعض الأعيان من منزلة عمر مكرم بين الشعب كالشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي ، فإستمالهم محمد علي بالمال ليوقعا بعمر مكرم.
وكان محمد علي قد أعد حسابًا ليرسله إلى الدولة العثمانية يشتمل علي أوجه الصرف ، ويثبت أنه صرف مبالغ معينة جباها من البلاد بناء علي أوامر قديمة وأراد يبرهن علي صدق رسالته ، فطلب من زعماء المصريين أن يوقعوا علي ذلك الحساب كشهادة منهم على صدق ما جاء به. إلا أن عمر مكرم امتنع عن التوقيع وشكك في محتوياته.
فأرسل يستدعي عمر مكرم إلى مقابلته، فامتنع عمر مكرم، قائلاً "إن كان ولا بد، فاجتمع به في بيت السادات." وجد محمد علي في ذلك إهانة له، فجمع جمعًا من العلماء والزعماء، وأعلن خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ السادات ، معللاً السبب أنه أدخل في دفتر الأشراف بعض الأقباط واليهود نظير بعض المال ، وأنه كان متواطئًا مع المماليك حين هاجموا القاهرة يوم وفاء النيل عام 1805م ، ثم أمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط ، وبنفي عمر مكرم اختفت الزعامة الشعبية الحقيقية من الساحة السياسية ، وحل محله مجموعة من المشايخ الذين كان محمد علي قادرًا على السيطرة عليهم إما بالمال أو بالإستقطاعات ، وهم الذين سماهم الجبرتي "مشايخ الوقت".
بالرغم من أن محمد علي إستطاع هزيمة المماليك، وإبعادهم إلى جنوب الصعيد ، إلا أنه ظل متوجسًا من خطورتهم ، لذا لجأ إلى إستراتيجية بديلة وهي التظاهر بالمصالحة وإستمالتهم بإغداق المال والمناصب والإستقطاعات عليهم ، حتى يستدرجهم للعودة إلى القاهرة.
كان ذلك بمثابة الطعم الذي ابتلعه الجانب الأكبر من المماليك، الذين استجابوا للدعوة مفضلين حياة الرغد والترف على الحياة القاسية والمطاردة من قبل محمد علي ، إلا أن بعض زعماء المماليك مثل إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن ورجالهم ، لم يطمئنوا إلى هذا العرض ، وفضلوا أن يبقوا في الصعيد.
وقائع مذبحة القلعة والقضاء على فلول المماليك
في ديسمبر من عام 1807 م ، تلقّى محمد علي أمرًا سلطانيًا من السلطان العثماني مصطفى الرابع ، بتجريد حملة لمحاربة الوهابيين الذين سيطروا على الحجاز ، مما أفقد العثمانيين السيطرة على الحرمين الشريفين ، وبالتالي هدد السلطة الدينية للعثمانيين ، إلا أن محمد علي ظل يتحجج بعدم إستقرار الأوضاع الداخلية في مصر، بسبب حروبه المستمرة مع المماليك ، لكن بعد تظاهره بالمصالحة مع المماليك ، لم يبق أمام محمد علي ما يمنعه من تجريد تلك الحملة ، لذا قرر محمد علي أن يجرّد حملة بقيادة إبنه أحمد طوسون لقتال الوهابيين.
كان في تجريد تلك الحملة ، ورحيل جزء كبير من قوات محمد علي خطر كبير على إستقرار أوضاعه في مصر ، فوجود المماليك بالقرب من القاهرة ، قد يشجعهم على إستغلال الفرصة لينقضوا على محمد علي وقواته.
لذا لجأ محمد علي إلى الحيلة، فأعلن محمد على عن إحتفال في القلعة بمناسبة إلباس ابنه طوسون خلعة قيادة الحملة على الوهابيين ، وحدد له الأول من مارس سنة 1811م ، وأرسل يدعو الأعيان والعلماء والمماليك لحضور الاحتفال ، وقد لبى المماليك الدعوة ، وما أن إنتهى الإحتفال حتى دعاهم محمد علي إلى السير في موكب إبنه.
مذبحة القلعة
وقد تم الترتيب لجعل مكانهم في وسط الركب ، وما إن وصل المماليك إلى طريق صخري منحدر يؤدي إلى باب العزب المقرر أن تخرج منه الحملة ، حتى أغلق الباب ، فتكدست خيولهم بفعل الإنحدار ، ثم فوجئوا بسيل من الرصاص ، إنطلق من بين الصخور على جانبي الطريق ، ومن خلفهم يستهدفهم ، راح ضحية تلك المذبحة المعروفة بمذبحة القلعة كل من حضر من المماليك ، وعددهم 470 مملوك ، ولم ينج من المذبحة سوى مملوك واحد يدعى "أمين بك" ، الذي إستطاع أن يقفز من فوق سور القلعة.
"أمين بك"
الناجي الوحيد من المماليك في مذبحة القلعة
بعد ذلك أسرع الجنود بمهاجمة بيوت المماليك ، والإجهاز على من بقي منهم ، وسلب ونهب بيوتهم، بل إمتد السلب والنهب إلى البيوت المجاورة ، ولم تتوقف تلك الأعمال إلا بنزول محمد علي وكبار رجاله وأولاده في اليوم التالي ، وقد قُدّر عدد من قتلوا في تلك الأحداث نحو 1000 مملوكاً.
تعرض محمد علي للعديد من الانتقادات من المؤرخين الغربيين بسبب غدره بالمماليك في تلك المذبحة ، بينما عدها البعض مثل محمد فريد إحدى أفعال محمد علي الحسنة التي خلّص بها مصر من شر المماليك ، بتخلص محمد علي من معظم المماليك ، انسحب المماليك الذين بقوا في الصعيد إلى دنقلة ، وبذلك أصبح لمحمد علي كامل السيطرة على مصر.
لقد ظهر عجز الدولة العثمانية ، منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، في إخماد الثورات التي قامت في وجهها ، فإستنجدت بولاتها لإخمادها ، ومن هذه الثورات التي أقضّت مضاجع الدولة : الثورة اليونانية والحركة الوهّابية في شبه الجزيرة العربية.
"محمد عبد الوهاب"
زعيم الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية
وقد حقّقت الدعوة الوهّابية نجاحًا في نجد ، وإحتضنها أمير الدرعية محمد بن سعود بن محمد آل مُقرن ، وتجاوزتها إلى بعض أنحاء الحجاز واليمن وعسير وأطراف العراق والشام ، وإستولى الوهابيون على مكة والطائف والمدينة المنورة ، حتى بدا خطرها واضحًا على الوجود العثماني في أماكن انتشارها، بل في المشرق العربي والعالم الإسلامي ، وأدّت دورًا هامًا في تطور الفكر الإسلامي الحديث ، حيث تُعدّ أول حركة إصلاحية سلفية في العصر الحديث ، كما أنها أولى الحركات الإصلاحية التجديدية التي ظهرت في الدولة العثمانية.
وشعرت الدولة العثمانية بخطورة تلك الحركة ، وأدركت أن نجاحها سوف يؤدي إلى فصل الحجاز وخروجه من يدها ، وبالتالي خروج الحرمين الشريفين، ما يفقدها الزعامة التي تتمتع بها في العالم الإسلامي بحكم إشرافها على هذين الحرمين، في وقت كانت قد بدأت تسعى فيه إلى التغلب على عوامل الضعف الداخلية، وتقوية الصلات بينها وبين أنحاء العالم الإسلامي بوصفها مركز الخلافة الإسلامية. شكّلت كل هذه العوامل حافزًا للدولة العثمانية للوقوف في وجه الدعوة الوهّابية ومواجهتها للحد من انتشارها، فحاولت في بادئ الأمر عن طريق ولاة بغداد ودمشق لكنها فشلت ، فوقع اختيارها على محمد علي باشا ، فأعدّ هذا حملة عسكرية بقيادة ابنه أحمد طوسون دخلت ينبع وبدر ، إلا أنها انهزمت في معركة وادي الصفراء ، لم يستثمر الوهّابيون انتصارهم في الصفراء، وقبعوا في معاقلهم ، ما أعطى طوسون الفرصة لإعادة تنظيم صفوف قواته ، كما طلب إمدادات من القاهرة ، وأخذ يستميل القبائل الضاربة بين ينبع والمدينة المنورة بالمال والهدايا ، ونجح في سياسته هذه التي مهّدت له السبيل لإستعادة المدينة المنورة ومكة والطائف ، لكن الوهّابيين عادوا وانتصروا في تَرَبة والحناكية ، وقطعوا طرق المواصلات بين مكة والمدينة ، وإنتشرت الأمراض في صفوف الجيش المصري، وأصاب الجنود الإعياء نتيجة شدة القيظ وقلة المؤونة والماء ، ما زاد موقف طوسون حرجًا، فرأى بعد تلك الخسائر ، أن يلزم خطة الدفاع، وأرسل إلى والده يطلب المساعدة.
قرر محمد علي باشا أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتال والقضاء على الوهّابيين، وبسط نفوذ مصر في شبه الجزيرة العربية ، فغادر مصر ، في 26 أغسطس سنة 1812م، الموافق فيه 17 شعبان سنة 1227هـ ، على رأس جيش آخر ونزل في جدة ثم غادرها إلى مكة وهاجم معاقل الوهّابيين ، إلا أنه فشل في توسيع رقعة إنتشاره ، فأخلى القنفذة بعد أن كان قد دخلها، وانهزم ابنه طوسون في تَرَبة مرة أخرى ، كان من الطبيعي بعد هذه الهزائم المتكررة ومناوشات الوهّابيين المستمرة لوحدات الجيش المصري ، أن يطلب محمد علي باشا المدد من مصر، ولمّا وصلت المساعدات، وفيما كان يتأهب للزحف ، توفي خصمه سعود في 27 أبريل سنة 1814م، الموافق فيه 6 جمادى الأولى سنة 1229هـ ، وخلفه في الإمارة إبنه عبد الله.
ويبدو أن هذا الأمير لم يملك قدرات عسكرية تُمكنه من درء الخطر المصري ما أدى إلى تداعي الجبهة الوهّابية، فصبّت هذه الحادثة في مصلحة محمد علي باشا الذي تمكّن من التغلب على جيش وهّابي في بسل، وسيطر على تَرَبة ودخل ميناء القنفذة ، في حين سيطر طوسون على القسم الشمالي من نجد.
إبراهيم باشا
عند هذه المرحلة من تطوّر المشكلة الوهّابية ، إضطر محمد علي باشا أن يغادر شبه الجزيرة العربية ويعود إلى مصر للقضاء على حركة تمرد ، إستهدفت حكمه ، وبعد القضاء على هذه الحركة إستأنف حربه ضدّ الوهّابيين ، فأرسل حملة عسكرية أخرى إلى شبه الجزيرة بقيادة إبنه إبراهيم باشا في 5 سبتمبر سنة 1816م ، الموافق فيه 12 شوّال سنة 1231هـ.
في النهاية ، تمكّن إبراهيم باشا، بعد إصطدامات ضارية مع الوهّابيين، من الوصول إلى الدرعية وحاصرها ، فإضطر عبد الله بن سعود إلى فتح باب المفاوضات، واتفق الطرفان على تسليم الدرعية إلى الجيش المصري ، شرط عدم تعرضه للأهالي، وأن يُسافر عبد الله بن سعود إلى الآستانة لتقديم الولاء للسلطان، وأن يردّ الوهّابيون الكوكب الدري، وما بقي بحوزتهم من التحف والمجوهرات التي أخذوها حين استولوا على المدينة المنورة ، وقد عمد إبراهيم باشا ، بعد تسلمه الدرعية، إلى هدمها. وهكذا انتهت الحرب الوهّابية التي خاضها الجيش المصري في شبه الجزيرة العربية، وعاد إبراهيم باشا إلى مصر.
حملات محمد على التوسعية الإستقلالية
ضم السودان إلى مصر
لقد كانت الحملة التالية في حملات محمد علي هي الحملة التي جردها لضمّ السودان. كانت أهداف محمد علي غير المعلنة من تلك الحملة السعي وراء الذهب والماس الذي تناقل الناس أنه موجود في أصقاع السودان وخاصة سنار، ولاتخاذ جنود سودانيين في الجيش النظامي المصري لما عرف عنهم من صبر وشجاعة وطاعة ، والتخلص من بقية جنود الفرق غير النظامية في الجيش المصري التي كانت تثير القلاقل ومصدر متاعب لمحمد علي.
أما السبب الظاهري لتلك الحملة ، فكان القضاء على البقية الباقية من المماليك الذين فروا إلى دنقلة.
انطلقت الحملة المؤلفة من 4,000 جندي في مراكب نيلية في 20 يوليو سنة 1820، بقيادة إسماعيل باشا ثالث أبناء محمد علي ، سارت الحملة جنوبًا ، فإنحدرت من أسوان إلى وادي حلفا إلى دنقلة ، حيث واجهت المماليك وهزمتهم دون مقاومة تذكر. وفي 4 نوفمبر من نفس العام، واجهت جمعًا من السودانيين بأسلحة بدائية وهزمهم في كورتي ، ثم واصل الجيش المصري الزحف ، فإستولى على بربر في 10 مارس سنة 1821م ـ ثم شندي الذي أعلن ملكها نمر إستسلامه أمام الجيش الزاحف، ثم استولوا بعد ذلك على أم درمان ، فإجتازوها وبالقرب منها أسسوا مدينة الخرطوم لتكون قاعدة عسكرية للقوات المصرية.
وجه بعد ذلك إسماعيل باشا نسيبه محمد بك الدفتردار في حملة لضم كردفان. وفي شهر أبريل من عام 1821 م ، إشتبكت قوات الدفتردار مع قوات محمد الفضل سلطان كردفان في بارا، فأنتصر الدفتردار ودخل مدينة الأبيض، ليضم بذلك كردفان للأراضي الخاضعة للسلطة المصرية.
هذا - وقد سار إسماعيل ببقية جيشه لضم مملكة سنار، فاستولى على مدينة ود مدني، فقدم ملكها الملك "بادي" ولائه للجيش المصري، فدخل المصريون سنار في 12 يونيو 1821م .
وفى أثناء وجود الجيش في سنار انتشر المرض بين الجنود ، فإضطر إسماعيل إلى طلب المدد من أبيه ، فأمدّه بقوات بقيادة أخيه الأكبر إبراهيم باشا ، وإتفقا على تقسيم العمل بينهما ، فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه على منطقة النيل الأزرق ، بينما اتجه إبراهيم لضم بلاد الدنكا ، وإستكشاف أعالي النيل ، فواصل إسماعيل زحفه في منطقة النيل الأزرق حتى وصل إلى فازوغلي في شهر يناير من عام 1822. أما إبراهيم فأكرهه المرض على العودة إلى مصر.
بدأت الثورات تظهر في مختلف المناطق بسبب الازدياد المتواصل في الضرائب التي فرضها المصريون على السودانيين، وما أن وصل إسماعيل باشا إلى شندي في ديسمبر من عام 1822 م ، حتى أمر الملك نمر بالمثول أمامه وبدأ في تأنيبه واتهامه بإثارة القلاقل ، ثم عاقبه بأن أمره أن يدفع غرامة فادحة وألف من العبيد، فأظهر الملك نمر الإمتثال ، ولم تمض أيام حتى دعا إسماعيل باشا وكبار رجاله إلى وليمة، وبعد أن أثقلهم بالطعام والشراب ، أمر بإشعال النار في المكان ، وأمر جنوده برمي كل من يحاول الهرب بالسهام والنبال ، فمات إسماعيل ورجاله خنقًا وحرقًا ، فلما بلغ محمد بك الدفتردار الخبر ، زحف إلى شندي وأسرف في القتل والسبي ، وتعقّب الملك نمر إلا أنه لم يدركه حيث فر إلى حدود الحبشة ، بعد ذلك - إستقرت الأوضاع في السودان ودان لحكم محمد علي.
محاولة ضم اليونان " وقائع حرب المورة "
لقد كانت بلاد اليونان ، حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، جزءًا من السلطنة العثمانية ، وفي هذه الفترة ظهرت في البلاد بوادر الثورة ضد الحكم العثماني، بفعل أربعة عوامل هي : تطوّر المجتمع اليوناني بفعل الرخاء الاقتصادي الذي نجم عن الحروب النابليونية ، وإنتشار الأفكار الأوروبية وبخاصة أفكار الثورة الفرنسية ، وردود الفعل الآيلة ضد المركزية العثمانية ، والتدخل الأوروبي المباشر ، وأخذت الحركات الثورية والجمعيات السياسية السريّة والعلنية تُشكل خطرًا على وحدة الدولة العثمانية بدءً من عام 1820 م ، وإتخذت مراكز لها في كل من روسيا والنمسا لتكون على اتصال وثيق بالحكومات الأوروبية من جهة، وبمنجاة من إضطهاد الحكّام العثمانيين من جهة أخرى.
وكان بعض هذه الجمعيات ، مثل "الجمعية الأخوية" ، يدعو إلى إحياء الإمبراطورية البيزنطية ، والإستيلاء على العاصمة الآستانة ، وإخراج المسلمين من أوروبا ودفعهم إلى آسيا ، وقد اتخذت الثورة في إقليم المورة بالذات طابعًا دينيًا، رافعة شعارًا هو : الإيمان والحرية والوطن ، وقد واجهت الدولة العثمانية مصاعب كبيرة في محاربة الثوّار، نظرًا لكثرة الجزر ، ولوعورة المسالك التي إشتهرت بها بلاد اليونان منذ قديم عهدها ، بفعل معرفة اليونانيين كيفية الإستفادة منها إستراتيجيًا ضد القوّات العثمانية ، وعندما تفاقم خطر الثورة ، طلب السلطان محمود الثاني من محمد علي باشا أن يُرسل قواته إلى اليونان لإخضاع الثوّار.
لوحة الغارة على ميسولونغي ، يظهر فيها الثوّار اليونانيون وهم يُقاتلون الجيش المصري والعثماني. بريشة ثيودور ڤريزاكيس (1855) م .
وفي النهاية ، قبل محمد علي باشا القيام بهذا الدور بفعل أن الخطر موجه ضد دولة المسلمين العامّة، المتمثلة بالدولة العثمانية ، وضد الإسلام ممثلاً في السلطان العثماني خليفة المسلمين، فأرسل حملة عسكرية بقيادة حسن باشا نزلت في جزيرة كريت وأخمدت الثورة فيها ، كما أرسل حملة أخرى بقيادة ابنه إبراهيم باشا، لإخماد ثورة المورة، ونجح في تنفيذ إنزال على شواطئها بعد اصطدامات بحرية قاسية مع الأسطول اليوناني في عام 1825م ، وأنقذ الجيش العثماني المحاصر في ميناء كورون ، كما حاصر ناڤارين، أهم مواقع شبه الجزيرة.
وقد تمكّن إبراهيم باشا من دخول هذا الثغر ، كما فتح كلاماتا وتريپولستا في شهر يونيو من عام 1825 م ، وطارد الثوّار واستولى على معاقلهم، باستثناء مدينة نوپلي، عاصمة الحكومة الثورية ، وإستعد للقضاء على آخر معاقل للثوّار في هيدرا وأستبزيا وميناء نوپلي وميسولونغي ، وما لبثت الأخيرة أن سقطت في يد الجيش المصري وكانت آخر معقل كبير للثوار.
معركة نافارين
نتيجة لانتصار الجيش المصري، قام اليونانيون بتحريك الرأي العام الأوروبي لإنقاذ الثورة ، فنهضت جماعة من أقطاب الشعراء والأدباء يثيرون الرأي العام في أوروبا بكتاباتهم ، ويحثّون الدول الأوروبية على التدخل لصالح الثورة.[62] وفعلاً دعت بريطانيا روسيا للتشاور ، بغية الوصول إلى تفاهم حول مستقبل اليونان، وتكلّلت هذه المفاوضات بتوقيع پروتوكول سان بطرسبيرغ ، الذي انضمت إليه فرنسا بعد مدة قصيرة ، وإتفقت الدول الثلاث على حث الباب العالي على عقد هدنة مع اليونانيين، ومنحهم قدرًا من الحكم الذاتي في إطار التبعية الاسمية للسلطان العثماني ، ولكن سقوط ميسولونغي ـ قلب الأمور رأسًا على عقب ـ فإتجهت الدول الأوروبية وفي مقدمتها روسيا إلى العنف دعمًا للثوّار ، فأرسلت سفنها إلى مياه اليونان لفرض مطالبها بالقوة ، ومنع السفن العثمانية والمصرية من الوصول إلى شواطئ هذا البلد، وإرسال الإمدادات إلى الجيشين العثماني والمصري ، وحاصرت أساطيل الحلفاء الأسطولين العثماني والمصري في ميناء ناڤارين ، وضربتهما ، بدون سابق إنذار، ودمرتهما تمامًا في 20 أكتوبر سنة 1827م ، الموافق فيه 29 ربيع الأول سنة 1243هـ.
عند هذه النقطة من المشكلة اليونانية ، كانت وجهات النظر العثمانية والمصرية متفقة على السياسة العامة ، إلا أنه بعد تدخل الدول الأوروبية وإنتصارها البحري في ناڤارين اختلفت وجهتيّ نظر الجانبين ، فقد رأى محمد علي باشا أن لا فائدة تُرجى من مواصلة القتال ، بعد أن فقد أسطوله ، وإنقطعت طريق مواصلاته البحرية مع جيوشه في بلاد اليونان ، وأن الحكمة تقضي بفصل السياسة المصرية عن السياسة العثمانية ، وقد عجّل في سرعة إتخاذه قرار الانسحاب إرسال فرنسا قوة عسكرية أنزلتها في المورة، وتلقّيه مذكرة من الدول الأوروبية تصرّ فيها على فصل بلاد اليونان واستهداف مصر، إن هو إستمر في أتباع السياسة العثمانية.
لذا فضّل محمد علي عزل مصر عن المشكلة اليونانية ، وترك أمرها للسلطان ، وفي 7 سبتمبر سنة 1828م ، الموافق فيه 26 صفر سنة 1244هـ ، ابتدأ انسحاب الجنود المصرية من المورة على متن ما بقي من السفن ، ولم يبق في اليونان غير ألف ومائتيّ جندي للمحافظة على بعض المواقع ريثما تستلمها الجنود العثمانية ، إلا أن القوات الفرنسية قامت بهذه المهمة عوضًا عن القوات العثمانية.
وقائع الحملة على بلاد الشام
خرج محمد علي باشا من الحرب اليونانية من دون أن يظفر بفتوح جديدة، ولم يُحقق أي استفادة من الاشتراك فيها ، في حين انتهت الحرب مع الوهّابيين ببسط نفوذه على شبه الجزيرة العربية ، وأتاح له دخول السودان ضم الجزء المتمم للأراضي المصرية، أما العمل الذي قام به بعد ذلك فكان مسرحه بلاد الشام.
ولقد كان محمد علي يطمح من كل تلك المساعدات والخدمات التي قدمها للدولة العثمانية أن يمنحه السلطان ولاية من الولايات الكبرى ، ولكن السلطان اكتفى بأن أقطع محمد علي جزيرة كريت تقديرًا لخدماته وتعويضًا عن بعض ما فقده في الحرب اليونانية ، لكن هذا التعويض لم يكن ذا قيمة، إذ لم يكن من السهل أن تحكم مصر هذه الجزيرة وأن تستفيد منها لاشتهار أهلها بالعصيان والتمرّد، ورأى أن يضم بلاد الشام إلى مصر، يدفعه في ذلك عاملان: سياسي واقتصادي.
أما العامل السياسي فهو اتخاذ بلاد الشام حاجزًا يقي مصر الضربات العثمانية في المستقبل من جهة ، وإنشاء دولة عربية ، أو قيام سلطنة إسلامية قوية، من جهة أخرى، كما أن بسط نفوذه على هذه البلاد سيُمكنه من تجنيد جيش من سكانها، فيزداد بذلك عدد أفراد جيشه - أما العامل الاقتصادي - فإنه أراد استغلال موارد بلاد الشام، من الخشب والفحم الحجري والنحاس والحديد التي كانت تفتقر إليها مصر، فضلاً عن أهميتها الاقتصادية بسبب موقعها الجغرافي وإتصالها بالأناضول ، وعلاقاتها التجارية بأواسط آسيا حيث تمر قوافل التجارة ، وبسبب موقعها على طريق الحج إلى البيت الحرام.
والراجح أن محمد علي باشا كان يطمح إلى ضمّ بلاد الشام منذ عام 1810م ، ويأمل أن يصل إلى حكمها بموافقة السلطان ، فطلب من محمود الثاني، في عام 1813 م ، أثناء الحرب الوهّابية ، أن يعهد إليه بحكم هذه البلاد بحجة أنه بحاجة إلى مدد منها يعاونه على القتال ، فوعد السلطان محمد علي بأن يوليه عليها نظرًا لأن الحرب في شبه الجزيرة كان تؤرق مضجعه وكان يتطلّع إلى القضاء على الوهابيين بسرعة خوفًا من أن تؤدي دعوتهم إلى التفرقة بين المسلمين ، ولمّا انتهت الحرب، عاد السلطان وأخلف وعده، إذ شعر أن وجود محمد علي في الشام خطرٌ على كيان السلطنة نفسها.
وقد مهّد محمد علي لتنفيذ خطته، بأن أخذ يوطد علاقاته بأقوى شخصين في المنطقة وهما: عبد الله باشا والي عكا، وبشير الثاني الشهابي أمير لبنان، وكلاهما مدين لمحمد علي بالبقاء في منصبه. أما عبد الله باشا فكان محمد علي قد ساعده لدى السلطان، إثر خلافه مع والي دمشق عام 1821 م ، فرضي عنه السلطان وأقرّه على ولاية عكا، كما كان محمد علي قد أمدّه بالمال في معركته ضد والي دمشق.
أما الأمير بشير فكان قد ناصر عبد الله باشا في ذاك الخلاف، وسار على رأس جيشه وحارب والي دمشق وهزمه. وما كادت الدولة العثمانية تطّلع على هزيمة والي دمشق حتى جرّد الباب العالي حملة عسكرية قوية اضطرت الأمير بشير إلى ترك البلاد، والسفر إلى مصر، حيث رحّب به محمد علي ، وإتفقا على التعاون معًا.
ولمّا كان محمد علي على وفاق مع السلطان ، فقد إستطاع أن يسترضيه ويُلطف موقفه من الأمير بشير، وأن يُعيده إلى إمارته.
هذا - وتُعد حروب محمد علي باشا في بلاد الشام حروبًا دفاعية وهجومية في آن معًا، أما كونها حروبًا دفاعية فلأن محمد علي باشا كان يعلم أن الدولة العثمانية لا تألُ جهدًا في السعي لإسترداد مركزها في مصر ، وأن السلطان محمود الثاني لم يكن صافي النيّة ، وأما كونها حروبًا هجومية فلأن هدفه كان أيضًا التوسع ، ويبدو أن محمد علي باشا قد أخذ قرار التصدي للباب العالي ضمن خلفيّات عدّة ، فقد آنس في جيشه القوة، ووجد أن الدولة العثمانية في حالة من التدهور والتفكك ، وأنها محط أنظار ومؤامرات الدول الأوروبية ، وهكذا وقع والي مصر أسير عاملين: أسير نفسه، إذ رأى أن الباب العالي ظلمه عندما منعه من ولاية الشام ، على الرغم من أدائه خدمات جليلة للسلطنة، وأسير اعتقاده أنه أصلح ولاة الشام.
بوادر ضعف الدولة العثمانية وصعود دولة محمد على
لقد إضطربت الدولة العثمانية أمام زحف الجيش المصري ، وعدّت ذلك عصيانًا ، وقامت للتصدي له ، وإصطدم جيش عثماني ، بقيادة عثمان باشا والي حلب ، بالجيش المصري في سهل الزرّاعة جنوبي حمص ، إلا أنه انهزم أمامه.
ثم عاد إبراهيم باشا إلى عكا لمواصلة حصارها ، فدخلها عنوة في 28 مايو/أيار سنة 1832م ، الموافق فيه 27 ذي الحجة سنة 1247هـ ، وأسر عبد الله باشا وأرسله إلى مصر ، وتابع القائد المصري زحفه بإتجاه الشمال ، بعد سيطرته على عكا ، فدخل دمشق مع الأمير بشير وجيشه بعد أن قاتلا والي المدينة ، ورحّب السكان به لأنهم كانوا أقرب إلى الرغبة في تغيير حكامهم بفعل مساوئ الولاة العثمانيين.
جزع الباب العالي لسقوط عكا ودمشق وسيطرة المصريين على جنوب الشام، وخشي السلطان أن يتزعزع مركزه أمام إنتصاراتهم ، فحشد جيشًا آخر بقيادة السرعسكر حسين باشا ودفعه لوقف الجيش المصري ، وإجبار المصريين على الانسحاب من بلاد الشام، وأصدر في الوقت نفسه فرمانًا أعلن فيه خيانة محمد علي باشا وابنه إبراهيم للسلطة الشرعيّة ، إصطدم إبراهيم باشا بالجيش العثماني الجديد في معركة حمص وتغلّب عليه في 29 يونيو/حزيران سنة 1832م ، الموافق 10 صفر سنة 1248هـ، وسيطر على حماة ودخل إثر ذلك مدينة حلب، وتأهب لاستئناف الزحف باتجاه الشمال. ، إنسحب حسين باشا شمالاً ، بعد خسارته، وتمركز في ممر بيلان وهو أحد الممرات الفاصلة بين بلاد الشام والأناضول، فلحقه إبراهيم باشا ، وإصطدم به وتغلّب عليه، وطارد من بقي من جيشه حتى اضطرهم إلى مغادرة المنطقة عن طريق ميناء الإسكندرونة وسيطر على الممر ، كما احتل ميناء إياس ، شمالي الإسكندرونة ، ودخل ولاية أضنة وطرسوس.
وشجعت هزيمة العثمانيين إبراهيم باشا على مواصلة طريقه ، فتقدم في داخل بلاد الأناضول حتى بلغ مدينة قونية ، وكان العثمانيون قد تجمعوا ليدافعوا عن قلب السلطنة ، ودارت فيها معركة قونية في 20 ديسمبر/كانون الأول سنة 1832م ، الموافق 27 رجب سنة 1248هـ ، ونجح القائد المصري في التغلّب عليهم وأسر قائدهم الصدر الأعظم محمد رشيد باشا ، وبهذه الغلبة انفتحت الطريق أمامه إلى الآستانة، حتى خُيّل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية السلطنة العثمانية أصبحت قريبة.
عقب هزيمة قونية ساد القلق عاصمة الخلافة ، وإرتعدت فرائص السلطان الذي خشي من تقدم إبراهيم باشا نحو العاصمة ، فإستنجد بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا ، إذ كانت بريطانيا منهمكة في شؤونها الداخلية وبالمسألة البلجيكية ، وكانت فرنسا تؤيد محمد علي وتتعاون معه ، وقد كان في جيشه عدد من القادة الفرنسيين، ووقفت كل من النمسا وبروسيا على الحياد.
وقد أرسلت روسيا عام 1833م أسطولاً بحريًا إلى الآستانة للدفاع عنها، ولم تكد بريطانيا وفرنسا تطلعان على وجود السفن الروسية في مياه الآستانة حتى هالهما الأمر، وشعرتا بالخطر الروسي عليهما ، وخشيتا أن تستغل روسيا تداعي الدولة العثمانية لتقوّي مركزها في الممرات البحرية ، فسارعتا إلى عرض مساعدتهما على السلطان فيما إذا تخلّى عن المساعدة الروسية.
ولكن الروس رفضوا إجلاء سفنهم إلا بعد أن ينسحب المصريون من الأناضول. عندئذ نشط ممثلو بريطانيا وفرنسا في التوسط بين السلطان ومحمد علي، حتى تم تبادل الرسائل بينهما ، وإستخدمت فرنسا علاقاتها الوديّة مع مصر لإقناع محمد علي باشا بتسوية خلافه مع السلطان ، وأن لا يتشدد في طلباته ، وأن يكتفي من فتوحه بسناجق صيدا وطرابلس والقدس ونابلس ـ رفض محمد علي باشا وجهة النظر الفرنسية، وأصرّ على ضم بلاد الشام وولاية أضنة، وجعل جبال طوروس الحد الفاصل بين الدولة العثمانية وممتلكاته، وأمر ابنه بالتقدم في فتوحه بهدف الضغط على السلطان.
وقد بذلت فرنسا جهودًا مضنية للتوفيق بين وجهتي النظر، العثمانية والمصرية، وهدّدت ، في إحدى مراحل المفاوضات، بقطع العلاقة مع مصر. وأخيرًا توصل الجانبان إلى توقيع اتفاقية كوتاهيه، في 4 مايو/أيار سنة 1833م، الموافق فيه 14 ذي الحجة سنة 1248هـ ، تنازل الباب العالي بموجبها عن كامل بلاد الشام، وأقرّ لمحمد علي باشا بولاية مصر وكريت وكامل سوريا الطبيعية (بما يشمل لبنان وفلسطين وأضنة)، وبولاية ابنه إبراهيم على جدة ـ قد تعهد محمد علي لقاء ذلك، بأن يؤدي للسلطان كل عام الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل. وهكذا جلا إبراهيم باشا عن الأناضول، وانتهت المرحلة الأولى لحروب الشام، وبدا أن الأزمة قد انتهت أيضًا.
لم تكن التسوية ، التي تمّت في كوتاهية، إلا تسوية مؤقتة، إذ أن محمد علي باشا لم يوافق على عقدها إلا خشية من تهديد الدول الأوروبية بحرمانه من فتوحه، ومن جهته وافق السلطان محمود الثاني على عقدها مكرهًا تحت ضغط الأحداث العسكرية والسياسية ، وهو عازم على إستئناف القتال في ظروف أفضل لاستعادة نفوذه في بلاد الشام ومصر ، ولمّا كان التفكير السياسي لكل طرف على هذا الشكل من التناقض، كان لابد من إستئناف الحرب لتقرير النتيجة النهائية ، ونفّذ السلطان سياسة إستراتيجية من شقين: إنه راح يُحرّض سكان بلاد الشام ضد الحكم المصري من جهة،(9) وقام بحشد القوات لضرب الجيوش المصرية وإرغامها على الخروج من البلاد، بمساعدة بريطانيا، من جهة أخرى ، وأدرك محمد علي باشا، بعد التطورات السياسية، بأنّ مواقف الدول الأوروبية كانت لغير صالحه، وبأنّ خططه الانفصالية غير قابلة للتحقيق، لكنه لم يفقد الأمل باعتراف السلطنة بالحقوق الوراثية لعائلته في حكم المناطق التي كانت تحت إدارته ، وحاول أن ينتهز الفرصة لإجراء محادثات جديدة، فأجرى مباحثات مع مبعوث السلطان ، صارم أفندي ، في مصر انتهت بالفشل بسبب التصلّب في المواقف .
وهكذا تطورت الأمور السياسية نحو التأزم، وأضحت الحرب بين الجانبين أمرًا لا مفر منه ، وجرت الاستعدادات الحربية في الآستانة بشكل نشط ومكثف، وتابعت الدول الأوروبية الميول العسكرية لدى السلطان بإهتمام بالغٍ.
من جهة أخرى ، فقد إستغل السلطان ثورة سكان بلاد الشام على الحكم المصري ، ودفع بجيش في ربيع عام 1839، بقيادة حافظ باشا، إلى بلاد الشام ، وكان ظهوره عند الحدود كافيًا لإيصال الأزمة إلى ذروتها، أما إبراهيم باشا فقد كان يترقب ، تنفيذًا لرغبة أبيه في اجتناب كل ما يُظهره بمظهر المعتدي ، وبعد أن احتشد الجمعان، أصدر السلطان أمره إلى حافظ باشا بمهاجمة إبراهيم باشا المتحصن في حلب. ويبدو أن محمد علي تملّكه الفرح لتحمّل السلطان وقائده مسؤولية البدء بالعمليات العسكرية المعادية ، لذلك أمر ابنه بمهاجمة الجيش العثماني ، وكان ذلك في 15 يونيو/حزيران سنة 1839م ، الموافق 2 ربيع الآخر سنة 1255هـ ، وفي معركة نسيب (الواقعة شرق عنتاب في الجزيرة الفراتية)، مُني الجيش العثماني بخسارة فادحة وكارثة حقيقية ، إذ كاد الجيش أن يُفنى عن بكرة أبيه، وأسر المصريون نحوًا من خمسة عشر ألف جندي ، وغنموا كميات هائلة من الأسلحة والمؤن. وتوفي السلطان محمود الثاني قبل أن يبلغه نبأ الهزيمة .
وقد خلف السلطان عبد المجيد الأول أباه السلطان محمود الثاني ، وهو صبي لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره ، وسرعان ما سارع إلى إجراء مفاوضات مع محمد علي. فإشترط محمد علي ، لعقد الصلح ، أن يكون الحكم في الشام ومصر حقًا وراثيًا في أسرته ، وكاد السلطان عبد المجيد يقبل شروط محمد علي لو لم تصله مذكرة مشتركة من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا ، تطلب منه قطع المفاوضات مع محمد علي. وكانت الدول الأربع قد اتفقت على منع محمد علي، القوي، من أن يحلّ محل السلطنة العثمانية ، الضعيفة ، في المشرق العربي، الذي تمر فيه طريق بريطانيا إلى الهند.أما فرنسا فقد انفردت في سياستها الشرقية عن الدول الأربع، ورأت أن تستمر في تأييد محمد علي ، على أمل أن تضمن لها مقامًا ممتازًا في المنطقة. ولم تلبث الدول الأربع أن عقدت عام 1840 مع الحكومة العثمانية مؤتمرًا في لندن بحث فيه المجتمعون ما دُعي "بالمسألة الشرقية"، وأسفر المؤتمر عن توقيع معاهدة التحالف الرباعي. وفي هذه المعاهدة عرضت الدول الأوروبية الأربع على محمد علي ولاية مصر وراثيًا، وولاية عكا مدى حياته. واشترطت هذه الدول أن يُعلن محمد علي قبوله بهذا العرض خلال عشرة أيام ، فإن لم يفعل تسحب الدول الأربع عرضها الخاص بولاية عكا. أما إذا لم يُجب في مدة عشرين يومًا فإن الدول الأربع تسحب عرضها كله، تاركةً للسلطان حرية حرمانه من ولاية مصر.
كان محمد علي باشا من جهته مصممًا على التمسك بالبلاد التي فتحها وأقرّته عليها اتفاقية كوتاهيه، وأخذ يراهن على مساعدة فرنسا وعلى حرب أوروبية ينتظرها بين ساعة وأخرى، ولمّا أبلغته السلطنة العثمانية وقناصل الدول الأوروبية في مصر شروط المعاهدة، ترك الأيام العشرة تمر من دون أن يُصدر أي ردّ رسمي ، فأبلغه قناصل الدول الأوروبية، في اليوم الحادي عشر ، الإنذار الثاني، وأمهلوه عشرة أيام أخرى، كما أبلغوه أنه لم يعد له الحق في ولاية عكا ، ومرّت الأيام العشرة الثانية من دون أن يقبل صراحة تنفيذ بنود الإتفاقية ، فعدّ قناصل الدول الأوروبية أن ذلك يعني الرفض، عندئذ أصدر السلطان فرمانًا بخلعه من ولاية مصر ، أمام هذا الأمر شرعت الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات تمهيدية لتنفيذ تعهداتها، فأمرت بريطانيا أسطولها في البحر المتوسط أن يقطع المواصلات البرية والبحرية بين مصر والشام وضرب موانئ هذه البلاد، وأوعزت إلى سفيرها في الآستانة بإشعال نار الثورة ضد محمد علي في المدن والقرى الشاميّة، كما قطعت الدول الأوروبية الأربع علاقاتها بمصر.
استقبل محمد علي باشا نبأ عزله بهدوء ، وأعرب عن أمله بالتغلب على هذه المحنة، ثم جنح للسلم عندما ظهر أمير البحر البريطاني "نابييه" أمام الإسكندرية، مهددًا بلغة الحديد والنار، ورأى أن فرنسا غير قادرة على مقاومة أوروبا كلها، لذلك وقّع اتفاقية مع أمير البحر المذكور وعد فيها بالإذعان لرغبات الدول الكبرى والجلاء عن بلاد الشام بشرط ضمان ولايته الوراثية لمصر ، لكن الدولة العثمانية ، رفضت هذا الشرط بإيعاز من بريطانيا ، ساندت فرنسا محمد علي باشا في موقفه ، وتشدّدت في ذلك حتى خيف من وقوع حرب أوروبية ، عندئذٍ تدخلت كل من النمسا وبروسيا في هذه القضية ، وأجبرتا بريطانيا وروسيا على تبني وجهة نظر محمد علي باشا وفرنسا ، فإجتاز والي مصر مأزق الخلع وإن أُرغم على الاكتفاء بولاية مصر في المستقبل ، وفعلاً أصدر السلطان فرمانًا بجعل ولاية مصر وراثية لمحمد علي باشا ، وإنتهت بذلك الأزمة العثمانية - المصرية ، وجلا المصريون عن الشام.
محمد على وخطة بناء الدولة المصرية الحديثة
مقدمة
إتجه محمد علي إلى بناء دولة عصرية على النسق الأوروبي في مصر ، وإستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين ، ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيون الفرنسيون الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي ، وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث ، وكانت أهم دعائم دولته العصرية سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة ، حيث كان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ، و يزودها بكل التقنيات العصرية ، وأن يقيم إدارة فعالة وإقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي.
وفيما يلي سوف نستعرض معاً جانب من خطة محمد على باشا التي وضعها من أجل النهوض بالدولة المصرية في جميع مجالاتها العسكرية والصناعية والإقتصادية والإجتماعية والزراعية والتعليمية .
أولاً – خطة الإصلاح في المجال العسكري
1- بناء جيش الدولة المصرية
لقد أدرك محمد علي أنه لتحقيق أهدافه التوسعية ، كان لا بد له من تأسيس قوة عسكرية نظامية حديثة ، تكون بمثابة الأداة التي تحقق له تلك الأهداف. قبل وفي بداية عهد محمد علي ، كان الجيش مؤلفًا من فرق غير نظامية تميل بطبيعتها إلى الشغب والفوضى ، معظمها من الأكراد والألبان والشراكسة، إضافة إلى تلك القوات جماعات من الأعراب الذين كان الولاة يلجأون إليهم كمرتزقة، وكانت أعمالها لا تتعدى أساليب حرب العصابات والكرّ والفرّ ، رأى محمد على أن هذا الجيش لا يعتمد عليه، فبذل جهده في إنشاء جيش يضارع الجيوش الأجنبية في قتالها، وقرر أن يستبدل جنوده غير النظامية بجيش على النظام العسكري الحديث.
ولقد كانت محاولة محمد علي الأولى لتأسيس جيش نظامي عام 1815، عندما عاد من حرب الوهابيين ، حيث قرر تدريب عدد من جنود الأرناؤوط الألبان التابعين لفرقة ابنه إسماعيل على النظم العسكرية الحديثة ، في مكان خصصه لذلك في بولاق. لم يرق لهؤلاء الجنود ذلك، بسبب طبيعتهم التي تميل إلى الشغب والفوضى، فثاروا على محمد علي وهاجموا قصره ودار بينهم وبين الحرس قتال ، إستطاع خلاله حرس محمد علي السيطرة على الموقف ، إلا أن محمد علي أيقن أنه لا يمكنه الإعتماد على مثل هؤلاء الجند ، فأرجأ تنفيذ الفكرة.
ولقد لجأ محمد علي مجددًا إلى الحيلة ، ففي عام 1820، أنشأ محمد علي مدرسة حربية في أسوان ، وألحق بها ألفًا من مماليكه ومماليك كبار أعوانه ، ليتم تدريبهم على النظم العسكرية الحديثة على يد ضابط فرنسي يدعى جوزيف سيڤ ، كان قد جاء إلى مصر وعرض خدماته على محمد علي. وبعد ثلاث سنوات من التدريب ، نجحت التجربة ، وتخرجت تلك المجموعة ليكون هؤلاء الضباط النواة التي بدأ بها الجيش النظامي المصري.
سليمان باشا الفرنساوي
بعد ذلك ، كان أمام محمد علي مشكلة ، أنه وبالتجربة ثبت أن الجنود الأتراك والأكراد والألبان والشراكسة لم يعودوا يصلحون ليكونوا عماد جيشه لعدم تقبلهم للاندراج في جيش نظامي ، لذا تحجج بحاجته إليهم في تأمين الثغور، وأرسلهم إلى دمياط ورشيد ليخلي القاهرة ، وليطمئنهم أرسل معهم بعض أبنائه كقادة لهم ، ثم أرسل إلى ابنه إسماعيل ليمده بعشرين ألفًا من السودانيين ليتم تدريبهم على الجندية في معسكرات أعدها لهم في بني عدي ، على أيدي الضباط الجدد. إلا أن التجربة فشلت لتفشي الأمراض بين الجنود السودانيين ، لإختلاف المناخ ، لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين ، قاوم الفلاحون في البداية تجنيدهم ، لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، واعتبروه عملاً من أعمال السخرة - ولكن - وبمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد ، إستشعروا تحت راية الجيش بالكرامة ، وبحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة.
2- إنشاء أول جيش نظامي
وبحلول شهر يونيو من عام 1824م ، أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين ، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي ، فأمر بإنتقالهم إلى القاهرة.
بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد بآطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء تم عام 1833، وإلى 236 ألف في إحصاء تم عام 1839. كما أنشأ محمد علي ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شؤون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية، وتنظيم الرواتب ، كانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة، التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية ، وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة ، وقد عتمد عليه إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول.
عندما شرع محمد علي في حرب الوهّابيين، اقتضت الحاجة إلى بناء سفن لنقل الجنود عبر البحر الأحمر، فشرع في إنشائها في ترسانة بولاق، ثم نقل القطع على ظهور الجمال إلى السويس ليتم تجميعها هناك، وقد اقتصر دور هذا الأسطول في البداية على نقل الإمدادات والتموين طوال سنوات الحملة ، وبعد أن أسس الجيش النظامي المصري ، وجد أنه من الضروري تأسيس أسطول حربي قوي يعاونه على بسط نفوذه.
إعتمد محمد علي في البداية على شراء السفن من أوروبا ، كما تعاقد على بناء سفن أخرى في موانئ أوروبا ، ولكن بعد تدمير هذا الأسطول في معركة ناڤارين أمام أساطيل إنجلترا وفرنسا وروسيا الأكثر تطوّرًا ، لم ييأس محمد علي وأمر في عام 1829 ببناء "ترسانة الإسكندرية" ، التي عهد في إدارتها إلى مهندس فرنسي اسمه سريزي ، قامت الترسانة بمهمة إعادة بناء الأسطول على الأنماط الأوروبية الحديثة، وقد بلغ عدد السفن الحربية التي صنعت في تلك الترسانة حتى عام 1837، 28 سفينة حربية من بينها 10 سفن كبيرة كل منها مسلح بمائة مدفع ، فإستغنت مصر عن شراء السفن من الخارج ، ومن شدة اهتمام محمد على بهذه الترسانة كان يزورها باستمرار، وكان يستحث العمال على العمل ، ويحضر حفلات تدشين السفن الجديدة.
3 - إنشاء أول مدرسة عسكرية في أسوان
هذا - وقد توسّع محمد علي في التعليم العسكري في مصر ، فبعد أن أمر ببناء مدرسة الضباط في أسوان ومدرسة الجند في بني عدي ، أمر بتأسيس مدارس أخرى في فرشوط والنخيلة وجرجا ، كما أسس مدرسة إعدادية حربية بقصر العيني لتجهيز التلاميذ لدخول المدارس الحربية ، يدرس بها نحو 500 تلميذاً ، لكنها نقلت بعد ذلك إلى أبي زعبل حيث أصبحت تسع نحو 1200 تلميذاً .
أول مدرسة حربية أسسها محمد على في أسوان
أضاف محمد علي بعد ذلك ، مدرسة للبيادة في الخانقاه ، والتي نقلت إلى دمياط عام 1834، ثم إلى أبي زعبل عام 1841م ، ومدرسة للسواري بالجيزة عام 1831، وأخرى للمدفعية في طره عام 1831 أيضاً.
كما أسس مدرسة لأركان الحرب في 15 أكتوبر سنة 1825 بالقرب من الخانقاه، ومدرسة للموسيقى العسكرية ، وأنشأ أيضًا معسكر لتدريب جنود الأسطول على الأعمال البحرية في رأس التين ، ولإعداد الضباط البحريين ، أسس محمد علي مدرسة بحرية عملية على ظهر إحدى السفن الحربية ، ولما إتسع نطاقها قسمت إلى فرقتين كل واحدة منها على سفينة.
4 - إنشاء أول مصنع لإنتاج الأسلحة في مصر
رأى محمد علي أنه لكي يضمن الإستقلالية ، وحتى لا يصبح تحت رحمة الدول الأجنبية، عليه إنشاء مصانع للأسلحة في مصر ، كان مصنع الأسلحة والمدافع في القلعة باكورة هذا التفكير، والذي أسسه عام 1827، وكان ينتج بين 600 و650 بندقية، وبين 3 و4 مدافع في الشهر الواحد ، كما كان ينتج سيوف الفرسان ورماحهم وحمائل السيوف واللجم والسروج.
وفي عام 1831م ، أسس محمد علي مصنع آخر للبنادق في الحوض المرصود ، كان ينتج 900 بندقية في الشهر الواحد ، ثم مصنع ثالث في ضواحي القاهرة ، وكانت المصانع الثلاثة تصنع في السنة 36,000 بندقية عدا الطبنجات والسيوف.
كما أسس معملاً للكهرجالات في جزيرة الروضة بعيدًا عن العمران ، وأضاف إليه معامل أخرى في الأشمونين وإهناسيا والبدرشين والفيوم والطرانة بلغ مجموع إنتاجها عام 1833، نحو 15,800 قنطار.
ثانياً – خطة الإصلاح التعليمي للنهوض بشتي مجالات التعليم
مقدمة
لقد أدرك محمد علي أنه لكي تنهض دولته ، يجب عليه أن يؤسس منظومة تعليمية ، تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي. لذا فقد بدأ محمد علي بإرسال طائفة من الطلبة الأزهريين إلى أوروبا للدراسة في مجالات عدة ، ليكونوا النواة لبدأ تلك النهضة العلمية. كما أسس المدارس الابتدائية والعليا، لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة.
1- إرسال بعثات تعليمية إلى الخارج
في عام 1813، ابتعث محمد علي أول البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكانت وجهتها إلى إيطاليا ، حيث أوفد عدد من الطلبة إلى ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة ، ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا.
ولقد كانت البعثات الأولى صغيرة ، حيث كان جملة من بعث خلالها لا يتعدى 28 طالبًا، ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي عام 1821م .
إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات ، كان مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا ، وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة ـ وقد تبع تلك الحملة حملة ثانية عام 1828 إلى فرنسا ، وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلترا والنمسا ، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832. وشهد عام 1844 ، أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم "بعثة الأنجال" لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده. كان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات، ضمت 319 طالبًا وبلغ إجمالي ما أنفق عليهم 303,360 جنيه.
كما أمر محمد علي بتوجيه ثلاث حملات بقيادة البكباشي سليم القبطان أعوام 1839، 1840، و1841 لاستكشاف منابع النيل. كان لتلك الحملات الفضل الكبير في استكشاف تلك المناطق ومعرفة أحوالها.
2 - إنشاء المدارس العليا
أنشأ العديد من الكليات وكانت يطلق عليها آنذاك "المدارس العليا"، بدأها عام 1816، بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران. وفي عام 1827، أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك للوفاء باحتياجات الجيش من الأطباء، ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب، ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة، وأخرى للقابلات (الولادة) في عام 1829م ، ثم أنشأت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية، ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836، ومدرسة الزراعة بنبروه عام ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب عام 1837، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع عام 1839م ، وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالباً.
3 - إنشاء مدارس للتعليم الإبتدائي
لما تقدمت المدارس العليا واتسع نطاقها ، قرر محمد علي إنشاء "ديوان المدارس" عام 1837، وعهد بإدارته إلى بعض أعضاء البعثات العائدين لمصر، لتنظيم التعليم بالمدارس. قرر هذا الديوان توسيع قاعدة التعليم في مصر، فوضع لائحة لنشر التعليم الابتدائي، نصت على ضرورة إنشاء 50 مدرسة ابتدائية، وهو ما وافق عليه محمد علي، وأمر بإنشائها على أن يكون 4 منها بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية تضم كل منها 200 تلميذ، والباقي توزع على مختلف الأقاليم ، وتضم كل منها 100 تلميذاً.
ثالثاً – خطة الإصلاح الإقتصادي
مقدمة
لكي يحقق محمد علي الاستقلال السياسي ، كان في حاجة إلى إنماء ثروة البلاد وتقوية مركزها المالي، لذا عمد إلى تنشيط النواحي الاقتصادية لمصر، وإستخدم لتحقيق ذلك عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين عملوا في تلك المجالات بالسخرة.
1 - خطة الإصلاح الصناعي
بني محمد علي قاعدة صناعية لمصر ، وكانت دوافعه للقيام بذلك في المقام الأول توفير احتياجات الجيش، فأنشأ مصانع للغزل والنسيج ومصنعا للجوخ في بولاق ومصنعا للحبال اللازمة للسفن الحربية والتجارية ومصنعاً للأقمشة الحريرية وآخر للصوف ومصنعا لنسيج الكتان ومصنع الطرابيش بفوه ، ومعمل سبك الحديد ببولاق ومصنع ألواح النحاس التي كانت تبطن بها السفن ، ومعامل لإنتاج السكر ، ومصانع النيلة والصابون ، ودباغة الجلود برشيد ، ومصنعاً للزجاج والصيني ومصنعاً للشمع ومعاصر للزيوت.
كما كان لإنشاء الترسانة البحرية دورًا كبيرًا في صناعة السفن التجارية.
2 - خطة الإصلاح الزراعي
إهتم محمد علي بالزراعة ، فإعتنى بالريّ وشق العديد من الترع ، وشيّد الجسور والقناطر.
كما وسّع نطاق الزراعة ، فخصص نحو 3,000 فدان لزراعة التوت للإستفادة منه في إنتاج الحرير الطبيعي ، والزيتون لإنتاج الزيوت ، كما غرس الأشجار لتلبية إحتياجات بناء السفن وأعمال العمران.
وفي عام 1821، أدخل زراعة صنف جديد من القطن يصلح لصناعة الملابس، بعد أن كان الصنف الشائع لا يصلح إلا للإستخدام في التنجيد.
كما قام أيضاً بإنشاء القناطر الخيرية في إطار خطة الإصلاح الزراعي الشاملة .
3 - خطة الإصلاح التجاري
بعد أن ازدادت حاصلات مصر الزراعية وخاصة القطن ، إتسع نطاق تجارة مصر الخارجية ، كما لعب إنشاء الأسطول التجاري وإصلاح ميناء الإسكندرية ، وتعبيد طريق السويس-القاهرة وتأمينه لتسيير القوافل ، دورًا في إعادة حركة التجارة بين الهند وأوروبا عن طريق مصر ، فنشطت حركة التجارة الخارجية نشاطًا عظيمًا ، حتى بلغت قيمة الصادرات 2,196,000 جنيه والواردات 2,679,000 جنيه عام 1836م .
رابعاً – خطة الإصلاح الإداري للدولة
حكم محمد علي مصر حكمًا أوتوقراطيًا مع ميل لإستشارة بعض المقربين قبل إبرام الأمور، إلا أنه اختلف عن الحكم الاستبدادي للمماليك في أنه كان يخضع لنظام إداري بدلاً من الفوضى التي سادت عصر المماليك. فقد أسس محمد علي مجلسًا حكوميًا عرف باسم "الديوان العالي" مقره القلعة يترأسه نائب الوالي محمد علي، ويخضع لسلطة هذا الديوان دواوين تختص بشؤون الحربية والبحرية والتجارة والشؤون الخارجية والمدارس والأبنية والأشغال.
كما أسس مجلسًا للمشورة يضم كبار رجال الدولة وعدد من الأعيان والعلماء، ينعقد كل عام ، ويختص بمناقشة مسائل الإدارة والتعليم والأشغال العمومية ، وفي عام 1837، وضع محمد علي قانونًا أساسيًا عرف بقانون "السياستنامة" ، يحدد فيه سلطات كل ديوان من الدواوين الحكومية.
1- خطة التقسيم الإداري
لقد قام محمد علي ، بتقسيم مصر إلى سبع مديريات أربعة في الوجه البحري وهي الأولى ضمت البحيرة والقليوبية والجيزة والثانية المنوفية والغربية والثالثة الدقهلية والرابعة الشرقية ، وواحدة في مصر الوسطى وشملت بني سويف والفيوم والمنيا، واثنتان في مصر العليا الأولى من جنوب المنيا إلى شمال قنا والثانية من قنا إلى وادي حلفا، إضافة إلى خمس محافظات وهي القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس.
ألغى محمد علي نظام "الإلتزام" ، الذي كان يسمح لبعض الأفراد الذين يسمون بالملتزمين بدفع حصص الضرائب على بعض القرى ، ويخوّل لهم جمعها بمعرفتهم، مما كان يرهق المزارعين لأنهم عادةً ما كانوا يجبوا تلك الأموال بقيمة أكثر مما دفعوه. إلا أنه إستبدل هذا النظام بنظام "الإحتكار" الذي جعل من محمد علي المالك الوحيد لأراضي القطر المصري ، وبذلك ألغى الملكية الفردية للأراضي ، كما أجهد محمد علي الشعب بالضرائب التي كان يفرضها على الشعب ، كلما إحتاج لتمويل أحد حملاته أو مشاريعه دون نظام محدد ، شملت تلك الضرائب ، الضرائب المفروضة على الأراضي والمزروعات والأفراد والماشية.
وكما احتكر محمد علي الأراضي والزراعة، احتكر أيضًا الصناعة والتجارة ، مما جعل منه المالك الوحيد لأراضي مصر، والتاجر الوحيد لمنتجاتها، والصانع الوحيد لمصنوعاتها.
خامساً – خطة النهوض بالعمران والتوسع في بناء القصور
إهتم محمد علي ببعض النواحي العمرانية التي تخدم دولته الناشئة ، فأسس المدن مثل الخرطوم وكسلا ، وأقام القلاع للدفاع عن الثغور وعاصمة البلاد ، كما شيّد فنارا لإرشاد السفن في رأس التين بالإسكندرية ، وعني أيضًا ببناء القصور ودور الحكومة، وأنشأ دفترخانة لحفظ الوثائق الحكومية ، ودار للآثار بعدما أصدر أمرًا بمنع خروج الآثار من مصر ، وعبّد الطرق التجارية ، ونظّم حركة البريد ، وجعل له محطات لإراحة الجياد.
وفي إطار النهضة العمرانية لمحمد على بالدولة المصرية ، فقد إهتم ببناء العديد من القصور في ربوع متفرقة من مصر ، وكان حريص كل الحرص على أن يُلحق بكل قصر ، حديقة خاصة ، بها جميع الأشجار النادرة المثمرة .
ولعل من أشهر تلك القصور ، قصره القديم في شبرا الخيمة ، والذي يوجد حتي الآن في داخل إطار كلية الزراعة التابعة لجامعة عين الشمس .
قصر محمد على بشبرا الخيمة
أول قصور الأسرة العلوية في مصر
سادساً – خطة النهوض بالمجتمع المدني للدولة
لقد تدرّج المجتمع في عهد محمد علي إلى عدة طبقات اجتماعية أعلاها الطبقة الحاكمة التي ضمت أسرة محمد علي وكبار رجاله وموظفي الدولة من المتعلمين في المدارس والمبتعثين للخارج ، ثم طبقة العلماء والأعيان ، فالمزارعين وعمال المصانع والعربان والرقيق من اليونانيين ، الذين أسروا في حرب المورة والجواري الشركسيات والحبشيات والسودانيات اللاتي كن يخدمن في بيوت الأثرياء ، وقد ارتفع تعداد السكان في عهد محمد علي من 2,514,400 نسمة عام 1823، إلى 4,476,440 نسمة عام 1845 م ، وكان محمد علي باشا متسامحًا واسع الأفق في الشؤون الدينية ، فقرَّب إليه المسيحيين ، كما المسلمين ، وإستعان بهم في حكمه وأدخلهم في حاشيته.
سابعاً – خطة النهوض بالمستوى الثقافي والإهتمام بالآثار
1- بناء أول متحف للآثار المصرية بالأزبكية
في إطار خطة النهوض بالدولة المصرية في مختلف المجالات ، فقد كان ميلاد فكرة بناء أول متحف يضم بين جنبايته الآثار المصرية القديمة التي تم إكتشافها في مصر في خلال فترة معاصرة لحكم محمد على باشا .
وقد بدأت قصة المتحف عندما أبدى القناصل الأجانب المعتمدون في مصر إعجابهم بالفن المصري القديم ، وعملوا على جمع الآثار المصرية ، وإرسالها إلى المدن الأوروبية الرئيسية ، وبذلك بدأت تزدهر تجارة الآثار المصرية التي أصبحت بعد ذلك موضة أوروبية.
وكانت الهدايا من تلك القطع النادرة خلال القرن التاسع عشر منتشرة بين الطبقة الأرستقراطية ، وكانت التوابيت من بين أهم القطع الأكثر طلباً. لم يفهم المصريون في بداية الأمر الدوافع التي جعلت الأوروبيين يهتمون بالأحجار الموجودة في أراضيهم. فيما كان الدافع الأهم ، وراء تنقيب المصريين عن الآثار في المعابد والمقابر هي الشائعات التي كانت تروج إلى أن ببعض هذه المناطق كنوزاً خفية.
حكم مصر في ذلك الوقت محمد علي باشا الذي بدأ إستراتيجية جديدة كان أساسها أن تنفتح مصر على العالم الغربي.
وفي عام 1835 أصدر محمد علي باشا مرسوماً يقضي بإنشاء مصلحة الآثار والمتحف المصري وقام بإسناد إدارة تلك المصلحة إلى يوسف ضياء أفندي بإشراف الشيخ رفاعة الطهطاوي ليتولى مهمة الاهتمام بآثار الماضي.
وقد نجح في تحذير الرأي العام بقيمة الآثار وأمر بإصدار قرار في 15 أغسطس 1835 بمنع التهريب والاتجار في الآثار المصرية ، بل ضرورة صيانتها والحفاظ عليها. وكان المتحف المصري في ذلك الوقت يطل على ضفاف بركة الأزبكية ، ثم تم إلحاقه بمدرسة الألسن.
2- بناء متحف للآثار القلعة
بدأ يوسف ضياء أفندي "مدير مصلحة الآثار" - منذ تولى منصبه بالتفتيش على آثار مصر الوسطى التي كان يعثر عليها الفلاحون.
وفي عام 1848م - كلف محمد علي باشا لينان بك وزير المعارف بوضع بيان شامل عن المناطق الأثرية ، وإرسال الآثار المهمة إلى المتحف المصري ، ولم يكلل هذا العمل بالنجاح بسبب وفاة محمد علي باشا عام 1849م ، والتي تلاها إضطراب الأمور مرة أخرى ، وعادت ظاهرة الإتجار في الآثار إلى الظهور ، وأخذت المجموعة التي كان يضمها المتحف الذي أقيم في الأزبكية في الإنكماش حتى تم نقلها إلى قلعة صلاح الدين في صالة واحدة.
المتحف الحربي بالقلعة
ومما زاد الأمر سوءًا كان إهداء الخديوي عباس الأول محتويات تلك الصالة كاملة إلى الدوق .
ثامناً – خطة الإصلاح للنهوض بالحياة النيابية في مصر
بداية التفكير في إنشاء مجلس الشوري
لقد كانت البداية الحقيقية لتطور الحياة النيابية في مصر مع إنشاء المجلس العالى الذي أسسه محمد على في نوفمبر 1824 م، والذي كان يتألف مـن نظار الدواوين ورؤساء المصالح واثنين من الأعيان من كل مديرية يقوم أهالى المديرية بانتخابهما، بعد ذلك قام محمد علي في عام 1829 بإنشاء مجلس "المشورة" وكان يتكون من مائة وستة وخمسين عضواً ، وجعل رئاسة هذا المجلس لابنه إبراهيم، وكان هذا المجلس يعقد مرة واحـدة في السنة لإستشارته في مسائل التعليم والإدارة والأشغال العمومية ، وأيضاً الشكايات التي كانت تقدم إليه لتقديم الحلول المناسبة لها.
إبراهيم باشا
1848 م – 1848م
إبراهيم باشا
فترة ولاية إبراهيم باشا لمصر
لقد تولى إبراهيم باشا حكم مصر في حياة أبيه ، ولم يستمر حكمه سوى 6 أشهر فقط، قبل أن يتمكن منه المرض ، حيث أصيب بالسل ، وإشتد عليه داء المفاصل ، وأخذ يبصق دمًا عند السعال ، فزاد ذلك من هموم محمد علي وحزنه ، فأرسل ولده إلى إيطاليا للعلاج ، على الرغم من أنه أدرك في قرارة نفسه أن ولده في عداد الأموات ، ويتضح ذلك جليًا مما قاله للسلطان عندما زار الآستانة في سنة 1846م ، حيث عبّر عن خوفه من ضياع إنجازاته بسبب عدم كفاءة أحفاده لتحمّل مسؤولية البلاد والعباد ، فقال: «ولدي عجوزٌ عليل، وعبّاس متراخ كسول ، من عساه يحكم مصر الآن سوى الأولاد، وكيف لهؤلاء أن يحفظوها؟» .
محمد على باشا
( فترة الحكم الثانية )
1848 م – 1848م
الفترة الأخيرة من حياة محمد على باشا والوفاة
بعد إنسحاب الجنود المصرية من بلاد الشام وفصل الأخيرة عن مصر وعودتها لربوع الدولة العثمانية بدعم دولي كبير ، وبعدما تبيّن أن فرنسا ليست مستعدة لخوض حرب في سبيل مصر أو واليها ، أصيب محمد علي باشا بحالة من جنون الإرتياب ، وأخذ يُصبح مشوش التفكير شيئًا فشيئًا ، ويُعاني من صعوبة في التذكّر ، ومن غير المؤكد إن كان هذا نتيجة جهده الذهني خلال حرب الشام ، أو حالة طبيعية نتيجة تقدمه بالسن، أو كان تأثير نترات الفضة التي نصحه أطباؤه بتعاطيها منذ زمن لعلاج نفسه من مرض الزحار.
ومما زاد حالة محمد علي باشا سوءًا ، المصائب التي حلّت بمصر وعليه شخصيًا في أواخر عمره ، ففي سنة 1844 م - تبيّن لرئيس الديوان المالي شريف باشا، أن ديون الدولة المصرية ، قد بلغت 80 مليون فرنك ، وأن المتأخرات الضريبية قد بلغت 14,081,500 قرشًا من الضريبة الإجمالية المقدرة بحوالي 75,227,500 قرشاً ، وتخوّف الباشا من عرض الموضوع على محمد علي ، لما قد يكون له من وقع شديد عليه ، فعرض المسألة على إبراهيم باشا الذي اقترح أن تقوم أحب شقيقاته إلى والده بنقل الخبر ، إلا أن ذلك لم يكن له الأثر المرجو ، فقد فاق غضب محمد علي ما توقعه الجميع ، ولم يهدأ باله ويستكين خاطره إلا بعد مرور ستة أيام.
بعد عام من هذه الحادثة ، أصيب إبراهيم باشا بالسل، واشتد عليه داء المفاصل، وأخذ يبصق دمًا عند السعال ، فزاد ذلك من هموم محمد علي وحزنه، فأرسل ولده إلى إيطاليا للعلاج، على الرغم من أنه أدرك في قرارة نفسه أن ولده في عداد الأموات، ويتضح ذلك جليًا مما قاله للسلطان عندما زار الآستانة في سنة 1846 م ، حيث عبّر عن خوفه من ضياع إنجازاته بسبب عدم كفاءة أحفاده لتحمّل مسؤولية البلاد والعباد ، فقال: «ولدي عجوزٌ عليل ، وعبّاس متراخ كسول، من عساه يحكم مصر الآن سوى الأولاد، وكيف لهؤلاء أن يحفظوها؟» ، بعد ذلك عاد محمد علي إلى مصر وبقي واليًا عليها حتى إشتدت عليه الشيخوخة ، وبحلول عام 1848م ـ كان قد أصيب بالخرف وأصبح توليه عرش الدولة أمرًا مستحيلاً ، فعزله أبناؤه وتولّى إبراهيم باشا إدارة الدولة.
وبحلول هذا الوقت كان محمد علي باشا يُعاني من المرض أيضًا ، وكان قد بلغ من الخرف حدًا لا يمكنه أن يستوعب خبر وفاة إبنه إبراهيم ، فلم يُبلّغ بذلك.
ولقد عاش محمد علي بضعة شهور بعد وفاة ولده ، وقد كانت وفاة محمد على باشا في يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1848م ، فخلفه ابن أخيه طوسون ، عبّاس حلمي.
ولم يزل محل دفن جثمان محمد على باشا كائناً في قلعة صلاح الدين الأيوبي.
القلعة حيث يوجد ضريح محمد على باشا
إرسال تعليق